أدباء وشعراء

من هو ابن المقفع

التعريف بابن المقفّع

عبد الله ابن المقفع هو كاتبٌ شهير من العصر العباسي عمل في ديوان عيسى بن علي، وهو فارسيّ الأصل، وكان يدين بالديانة المجوسيّة لكنّه أسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح وأيضاً عم المنصور، حيث كانا السفاح والمنصور الخليفتين الأوليين من خلفاء بني عباس، ومن الجدير بالذكر أنّ ابن المقفع يعدّ أول من أدخل إلى العربية الحكمة الفارسية الهندية، والمنطق اليوناني، وعلم الأخلاق، وسياسة الاجتماع، وهو أول من عرّب وألّف، كما يرجع الفضل إلى كتبه في تطور النثر العربي ورفع مستواه الفنيّ إلى أعلى المستويات.

نسب ابن المقفّع

ابن المقفع هو روزبه بن داذويه واسم جده (المبارك)، ومن الجدير بالذكر أنّ ابن المقفع لُقّب بهذا الاسم لأنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي في أيام ولايته بلاد فارس كان قد ولى والده (داذويه) خراج فارس، فأخذ بعض المال فضربه حتى تقفّعت يداه، وكانت كنيته قبل الإسلام أبا عمرو، لكن بعد أن أسلم سُمي بعبدالله وكُني بأبي محمد، وهو من بلاد خوز التي تُعرف بخوزستان أو كما يسميها العرب الأهواز، وهي قريبة من مدينة البصرة العراقية، وتعيش فيها القبائل العربية منذ الفتح كما يتحدث أهل خوز لغة خاصة بهم ليست سريانيّة ولا عبرانيّة ولا فارسيّة ولا عربيّة، إلى جانب اللغة الفارسيّة والعربيّة التي يتحدث بها عامتهم.

إقرأ أيضا:الشعراء

حياة ابن المقفّع

وُلد ابن المقفع في السنة السادسة بعد المئة في بلاد فارس، لكنّه نشأ وترعرع في مدينة البصرة، وكان مولى لآل الأهتم الذين كانوا حينها أهل الفصاحة والخطابة، وقد عُرفوا بذلك حتى قبل الإسلام، ومنهم عمرو بن الأهتم الذي اشتهر بالبلاغة، والذي كان في وفد بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عنهم ابن دريد في كتاب الاشتقاق: (وفي بني الأهتم رجال معروفون خطباء يطول الكتاب بأسمائهم).

لقد كان من حُسن حظ ابن المقفع أن يعيش في مدينة البصرة التي بُنيت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والتي كانت آنذاك أكثر مدن العالم الإسلاميّ ازدهاراً فكريّاً وأدبيّاً وعلميّاً، وكانت ملتقى رجال العلم والشعراء والرواة، وكان فيها سوق المربد الذي كان شبيهاً بسوق عكاظ في الجاهليّة الذي كانت تُقام فيه الحلقات التي يتوسطها الشعراء والرجاز ويؤمّها الأشراف وسائر الناس يتناشدون ويتفاخرون، ومن أشهر حلقاته حلقة الفرزدق وراعي الإبل، كما نبغ في مدينة البصرة العديد من رجال الأدب أمثال أبو الأسود الدؤلي وهو أول من شرع وضع النحو، وابن أبي إسحاق الحضرمي وهو أول مَنْ علل النحو، وعيسى بن عمر الثقفي أول مَنْ ألَّف فيه، وهارون بن موسى أول مَنْ ضبطه، وسيبويه أول مَنْ أبدع في تأليفه، ومن العلماء الذين نبغوا في البصرة أيضاً بشار بن برد، وصالح بن عبد القدوس، والخليل بن أحمد الفراهيدي، والحسن البصري الذي كان يعقد حلقته ويلقي دروسه العامه، ومن تلك الحلقة نبغ واصل بن عطاء الغزال رئيس المعتزلة الذي ترك تلك الدروس واعتزل في المسجد لهذا سُمّي هو ومن تبعه بالمعتزلة، ثم انتشر بعد ذلك مذهب الاعتزال في البصرة.

إقرأ أيضا:بحث عن الجاحظ

نشأ ابن المقفع في هذه المدينة العظيمة التي لم يكن ينافسها في ازدهارها العلميّ غير مدينة الكوفة، فقد كانت هاتان المدينتان هما مدينتا العلم والأدب في الإسلام، لكن البصرة كانت أكثر ازدهاراً، وقد كان هناك خلاف بين البصريين والكوفيين في المذاهب العربية والذي فتح باباً واسعاً لحدوث جدلٍ كبيرٍ بين أنصار الفريقين، مما جعل بعض الكتاب يؤلفون عدداً من الكتب حول هذا الخلاف.

عاش ابن المقفع بعد موت والده في مدينة البصرة فعمل كاتباً في الدواوين كما عمل والده من قبله، كما بدأ الكتابة في سنّ العشرين أو يزيد عليها قليلاً، فوليَّ الكتابة لداود بن هبيرة وهو يزيد بن عمرابن هبيرة، وكان والي مروان بن محمد وآخر خلفاء بني أمية على العراق، وبعد أن انتقل الحكم إلى العباسيين اتصل ابن المقفع بسليمان وعيسى وإسماعيل أبناء علي بن عبد الله بن عباس وأعمام السفاح والمنصور، كما كتب لعيسى عندما كان والياً على كرمان، وجعله إسماعيل والي الأهواز مؤدّباً لبعض بنيه، كما كتب لسليمان وهو أمير على البصرة، وترجم للمنصور في أثناء ذلك عدة كتب لكنه لم يلتقِ به، كما ظلّ ملازماً لأعمامه حتى مات.

علم ابن المقفّع

تميز ابن المقفع بتعدُّد الثقافات، حيث جمع بين الثقافتين العربيّة والفارسيّة وما يتبعها من حكمة الهنود وفلسفة اليونان، فقد ترجم الفُرس كتب الهند واليونان بعد أن فتح الإسكندر بلاد فارس، فانتشرت فيها الفلسفة اليونانيّة، وترجم ابن المقفع عن الفارسيّة كتباً من وضع الهند واليونان منها أدبيّ ومنها فلسفيّ مثل كتب المنطق، فهو عُدّ من أوائل الذين ترجموا كتباً في هذا العلم، وهو أوّل من ترجم كتباً في المنطق لأبي جعفر المنصور، كما يعتقد بعض المستشرقين أنّ ابن المقفع هو الذي وضع طريقة تدوين التاريخ باللغة العربيّة ومن الأمثلة على ذلك ترجمته لكتاب خداينامه (سير ملوك العجم).

إقرأ أيضا:بحث عن زهير بن أبي سلمى

اجتمع لابن المقفع العلم الواسع، والعقل الراجح، والذكاء الحاد، والطبع الفيَّاض، واللغة الشريفة، وقد قيل لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع، كما اعتُبرابن المقفع من أوائل الأدباء في البلاغة، حيث رتبهم ابن النديم كالآتي: (عبد الله بن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، محمد بن حجر، أنس بن أبي شيخ، سالم، مسعدة، الهرير، عبد الجبار بن عدي، أحمد بن يوسف)، وقد شهد كبار الأدباء بعلم وأدب ابن المقفع، فقد حدث أن اجتمع بالخليل بن أحمد سيد الأدباء وأعظمهم، فمكثا سوياً ثلاثة أيام يتحدثان، فلما افترقا سُئل الخليل عن ابن المقفع فقال: (ما شئت من علم وأدب إلا أنّ علمه أكثر من عقله)، وسُئل ابن المقفع عن الخليل فقال: (ما شئت من علم وأدب إلا أنّ عقله أكثر من علمه).

اعترف الجاحظ أيضاً ببلاغة وأدب ابن المقفع، لكنّه أنكر عليه علمه في الكلام، وقال في ذلك: (ومن المعلمين ثُمَّ البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، كان مُقدَّمًا في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله، وكان يتعاطى الكلام ولا يُحْسِنُ منه لا قليلًا ولا كثيرًا، وكان ضابطًا لحكايات المقالات، ولا يعرف من أين غُرَّ المغتر ووثق الواثق، وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت من خُلَّص المتكلمين ومن النَّظَّارين فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية، فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم، وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم فيظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بعد به).

كان لعناية ابن المقفّع بالترجمة بشكل خاص بعض الأسباب، فقد كان مفتوناً بأداب قومه وعلومهم، فأحبّ أن يتقرب بذلك من أولي الأمر، لا سيما أنّ العصر الذي عاش فيه امتاز بالترجمة والنقل عن الثقافات الأجنبيّة، لرغبة أولي الأمر في الاطلاع على علومهم والاستفادة منها، وقد أبدع ابن المقفع فيما نقل حيث ساعده في ذلك أنّه جمع بين الثقافتين العربيّة والفارسيّة، ومن الملاحظ أنّ ابن المقفع لم يتقيد بأصول الكتب التي ترجمها بل زاد عليها أشياء وأنقص منها أشياء وصبغها بطابعه وأسلوبه، وله في الترجمة آثار كثيرة لكنّها لم تصل إلينا جميعها، فمما وصل إلينا: (كليلة ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير)، حيث يعتبر كليلة ودمنة من أقدم الكتب العربية في الأخلاق وتهذيب النفس، والذي وضعه الفيلسوف الهندي بيدبا لدبشليم ملك الهند منذ عشرين قرناً ونيّف، إذ أراد بيدبا بهذا الكتاب إصلاح ملك الهند الذي طغى بعد صعوده إلى العرش بعد فتح الإسكندر سنة 326 قبل الميلاد.

كان لنشأة ابن المقفع في البصرة واهتمام والده بتعليمه، وتقويم لسانه على الكلام الفصيح إضافة إلى ذكائه أثر جعله من أكثر الأدباء آنذاك بلاغة وعلماً، وبالنسبة لأساتذته الذين أخذ عنهم العلم فلم يُعرف منهم غير واحدٍ ذكره ابن النديم هو أبو الجاموس ثور بن يزيد، والذي أخذ عنه ابن المقفع الفصاحة حيث كان أعرابياً يأتي إلى البصرة إلى آل سليمان بن علي.

صفات ابن المقفّع وأخلاقه

عُرف ابن المقفع بالأخلاق الحميدة، والكرم والسماحة، والإيثار والصدق، كما عُرف ببعده عن الكذب والحسد، وبالمروءة، وبسهولة الطبع برصانةٍ، كما اشتهر بذكائه وسعة علمه، وقد قيل فيه: (أنه لم يكن في العجم أذكى منه)، وعرف بالوفاء للأصحاب، وقد قال عنه الجاحظ: (كان جواداً فارساً جميلاً) كما كان ابن المقفع يقول في الوفاء للأصحاب: (ابذل لصديقك دمك ومالك)، وكان بالفعل نِعم الصديق الوفي، فقد حدث أن طُلب صديقه عبد الحميد بن يحي بعد مقتل مروان بن محمد، فلجأ إلى ابن المقفع في الجزيرة فجاء الجند إليهما، فقالوا لهما: أيكما عبد الحميد؟!، فقال ابن المقفع: (أنا) مؤثراً صاحبه على نفسه، وهمّ الجند بالقبض عليه، فصاح عبد الحميد: ترفّقوا بنا فإنّ كلاً منّا له علامات فوكلوا بنا بعضكم وليمضي البعض الآخر، ويذكر تلك العلامات لمن وجهكم، ففعلوا وأخذوا عبد الحميد فقُتل ونجا ابن المقفع وهو كارهٌ لذلك.

مؤلّفات ابن المقفّع

ترك ابن المقفع الكثير من الآثار الأدبيّة التي جمع فيها بين الثقافتين الفارسيّة والعربيّة، ومن أشهر مؤلفاته (كليلة ودمنة) الذي نقله عن الفارسيّة، وهو كتاب يهدف إلى إصلاح وتهذيب العقول، ومنها أيضاً الأدب الصغير والأدب الكبير.

كليلة ودمنة

كليلة ودمنة هو كتابٌ هندي يعتبر أقدم كتاب عربي منقول في الأخلاق وتهذيب النفس، وقد ألّفه الفيلسوف الهندي بيدبا لملك الهند دبشليم عندما بغى واستكبر بعد استلامه للعرش، وذلك بعد فتح الإسكندر سنة 326 قبل الميلاد، وقد كان هدف بيدبا من تأليف هذا الكتاب هو إصلاح وتهذيب دبشليم، والكتاب عبارة عن مجموعة قصص ذات طابع يرتبط بالحكمة والأخلاق، ومعظم شخصياته من الحيوانات، إذ إنّ إصلاح الملوك والبغاة عن طريق الحكايات والإشارات كان أسلم الطرق خوفاً من بطشهم، حيث إنّ فيهم من الكِبر والتجبُّر ما يمنعهم من تقبُّل أي تصويب لأخطائهم من أي أحد.

كتب الفيلسوف الهندي بيدبا هذا الكتاب باللغة الهندية السنسكريتية، وقبل أن يترجم إلى اللغة العربية عُرف باسم (بَنْجَه تَانترا) أي الكتب الخمسة، وهو عبارة عن أربعة عشر باباً، وقد نقله الطبيب (بَرزويه) بن أزهر الفارسي من السنسكريتية إلى الفهلوية بعد أن صار عرش الفرس إلى كسرى أنوشروان، ثمّ نقله عبد الله بن المقفع إلى العربيّة، فعند ظهور الكتاب أُعجب العرب به فنقله بعضهم مرة أخرى من الفارسيّة، ومنهم عبد الله بن هلال الأهوازي الذي نقله ليحيى البرمكي في خلافة المهدي لكنّ ترجمته ضاعت، كما عارضه سهل بن هارون أحد كتاب المأمون بكتاب سماه (ثعلة وعفرة) لكنّه ضاع أيضاً، كما نظمه عدد من الشعراء منهم أبو سهل الفضل بن نوبخت، وأبان بن عبد الحميد اللاحقي، وعلي بن داوود الرشيد، وقد ضاعت كلّ هذه المنظومات إلا منظومة أبان فقد بقي منها قطعة جيدة في كتاب (الأوراق) للصولي، كما نظمه ابن الهبارية المتوفي سنة 504هـ وسماه (نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة) وهو مطبوع، ونظمه ابن مماتي المصري المتوفي سنة 606هـ وضاع نظمه، ثمّ نظم منه عبد المؤمن بن الحسن بعض الأقسام سنة 700هـ، ونظمه جلال الدين النقاش سنة 900هـ، لكنّ النظمين غير مطبوعين.

أبواب وأغراض الكتاب

سُمي كتاب كليلة ودمنة بهذا الاسم من باب تسمية الكل باسم الجزء، فخبر كليلة ودمنة لا يتناول غير بابين من أبوابه، وهما باب الأسد والثور، وتحكي كليلة ودمنة قصة أخوين من بنات آوى، فتمثل شخصية دمنة الحسود الطماع الذي يحاول الوصول إلى أهدافه من الشهرة والمال بأية طريقةٍ حتى وإن كانت غير شريفة، وتمثل شخصية كليلة صاحب الأخلاق القنوع الذي يتحرى السلامة ببعده عن أصحاب السلطان خوفاً من بطشهم، ومختصر القصة أنّ دمنة سعى بالفتنة بين الأسد ملك الغابة وبين الثور جليسه وصديقه، ولم يصغي لكلام أخيه كليلة ولا لنصحه، فقتل الأسد الثور ثمّ اكتشف أنّه بريء من التهمة، فأمر بحبس دمنة وأقام محكمة وتم استدعاء شهود، كما دافع دمنة عن نفسه لكن التهمة ثبتت عليه، فأمر القاضي بقتله أما كليلة فمات حزناً عليه.

أما بقية الأبواب فكل~ باب منها قائم بنفسه لكنها جميعها لها نفس الهدف وهو تهذيب النفس والإرشاد إلى حسن السياسة وحسن اختيار الأصحاب، فالباب الأول وهو مقدمة الكتاب لبهنود بن سحوان المعروف بعلي بن الشاه الفارسي، ذكر فيه السبب الذي وضع لأجله بيدبا هذا الكتاب لدبشليم ملك الهند، والباب الثاني بعثه برزويه إلى الهند لنقل الكتاب، والباب الثالث عرض الكتاب لابن المقفع وبه يدعو قارئ الكتاب إلى التدبُّر والتفكُّر في مقاصد الكتاب، وهذا ما طلبه من القارئ: (أن يديم النظر فيه من غير ضجر، ويلتمس جواهر معانيه، ولا يظن أن نتيجته إنما هي الإخبار عن حيلة بهيمتين، أو محاورة سبع لثور، فينصرف بذلك عن الهدف المقصود)، فيبدو أنّ ابن المقفع خاف ألا يأخذ العرب كتابه على محمل الجد كونه وُضع على ألسنة الحيوانات ولأنّ هذا الأدب جديد عليهم ولم يعتادوا عليه.

إنّ الباب الرابع هو برزويه الطبيب لبزر جمهربن البختكان وزير كسرى، وقد ذكر فيه فضل برزويه وحسبه ونسبه وصناعته وجعل الكلام فيه على لسان برزويه، وأكثر هذا الباب مباحث وتعابير طبية، وهو يدل على حكمة الطبيب وخوفه من الدنيا وميله إلى الزهد، وهكذا أصبح مجموع أبواب الكتاب ثمانية عشر باباً تحتوي على كثير من الحكم والمواعظ والأمثلة، وتدعو إلى الزهد والتقوى، والعفاف، بما جاء فيها من قصص النُسّاك، وتدعو إلى الإصلاح الاجتماعي والتوجيه السياسي، وتُدين الرذائل والشرور وشتى مظاهرها، كما تحثّ على المحافظة على الأصحاب، وعدم تصديق الوشاة والنمامين، وعلى الرويّة وعدم التسرع في الأحكام، وقد طبع ابن المقفع الكتاب بالطابع الإسلامي، مما يدل على أنّه قد غيّر في الأصل ليجعله ملائماً لأهل عصره، وقد هذّب فيه وتصرف في جميع أبوابه، وقد بذل جهده ليجعل روحه إسلامية فيصلح لتأديب الأمراء المسلمين.

الأسلوب الإنشائي في الكتاب

وضع ابن المقفع كتاب كليلة ودمنة بأسلوب جديد لم يعرفه العرب من قبل، وهو السرد على ألسنة البهائم والحوار بطريقة أدبية ممتعة، ظاهرها هزلي باطنها حكم ومواعظ، وجعل أساس حكايات الكتاب يقوم على ضرب الأمثال، فكلّ باب فيه مثل رئيسي يحتوي أيضاً عدة أمثال يتفرع بعضها من بعض، كما يحفل الكتاب بالأقوال الحكيمة والمواعظ، وقد يسترسل الكاتب في فقرة فيخرج بها عن الموضوع الذي يتكلم فيه، فمثال على ذلك أنّه لما أراد دمنة أن يغري الأسد بالقول أخذ يدعوه إلى قبول نصيحته بهذه الأقوال، وفيها ما يناسب الموضوع وما لا يناسبه: (وخير الأخوان والأعوان أقلهم مداهنة في النصيحة، وخير الأعمال أحمدها عاقبة، وخير النساء الموافقة لبعلها، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأفضل الملوك من لا يخالطه بطر، ولا يستكبر عن قبول النصيحة).

يمتاز أسلوب الكتاب بالخاصية الرياضية التي تختص بها فلسفة اليونان، لا سيما نظرية فيثاغورس وما فيها من عدد وتقسيم، مما جعل بعض المستشرقين يعتقدون أنّ أصل الكتاب يوناني، وأنّ ابن المقفع كان يعرف اللغة اليونانيّة، لكن هذا الكلام لم تثبت صحته، والحقيقة هي أنّ ابن المقفع كان قد اطلع على حكمة اليونانيين في كتب الفرس التي ترجمها، ويظهر هذا الأسلوب أيضاً في كتاب الأدب الصغير والأدب الكبير، كما يزيد المتعة في قراءة كتاب كليلة ودمنة اندماج الأسلوب القصصي بالأسلوب المنطقي مما يزيل عنه التعقيد الذي يكون في كتب المنطق ويسهل على القارئ فهم عباراته وفهم معانيها.

أثر الكتاب في الأدب العربي

كان لكتاب كليلة ودمنة لابن المقفع أثر عميق في الأدب العربي وتطور وازدهار أدب القصة التي تجري على ألسنة الحيوانات، ليس فقط في عصر ابن المقفع بل في كافة العصور وعلى مر الزمان، فقد حاز هذا الكتاب على اهتمام الأدباء والشعراء، ولفت أنظارهم إلى هذا النوع من القصص، فمنهم من نظم الكتاب شعراً ومنهم من شرحه، كما يعتبر هذا الكتاب من أوائل الكتب التي ترجمت ونقلت إلى اللغة العربية، حيث تم نقله في القرن الهجري الثاني، ومنذ ذلك الوقت وهو يحتل مكانة كبيرة لدى المسلمين، واستمرت هذه المكانة على مر العصور حتى يومنا هذا، ولا زال الكتاب يطبع طبعات شعبية باستمرار كما يُدرّس في المدارس، وفي الآونة الأخيرة حوّلته قناة الجزيرة العربيّة إلى مادة تلفزيونيّة للأطفال على شكل صورهزلية تُعرض بحلقات متعددة تستهوي الكبار والصغار.

الأدب الصغير

إنّ كتاب الأدب الصغير لابن المقفع هو كتاب صغير الحجم لكنّه مليء بالفوائد ويزخر بالنصائح العامة للقارئ، وقد صرح ابن المقفع في بداية كتابه بعدة أمور، فهو في الكتاب يدعو قارئ كتابه إلى مُحاسبة نفسه وتأديبها، فقد كانت محاسبة النفس طريقة قديمة عند الهنود لترويض نفوسهم، كما يشجع ابن المقفع قارئ كتابه على طلب العلم ويشوقه لذلك، ويدعوه إلى اكتساب العادات الحسنة وينهاه عن الاعتداد بالنفس ويحذره من الأخلاق السيئة، كما يتحدث ابن المقفع عن فضل الأدب والأخلاق والمال والأصدقاء، وعن واجبات المرء، والسلطان والوالي، وعن كيفية التعامل معهم عند صحبتهم، ويفسر ابن المقفع موضوع كتابه فيقول: (وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفاً فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير، ودليلاً على محامد الأمور ومكارم الأخلاق إن شاء الله).

يحتوي كتاب الأدب الصغير على بابين هما:

  • الباب الأول: يشتمل على واجبات العاقل، فيقول ابن المقفع فيه: (أنّ العاقل ينظر فيما يؤذيه، وفيما يسره، وعلى العاقل مخاصمة نفسه ومحاسبتها، والقضاء عليها والإثابة والتنكيل بها، وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مراراً، وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس ويحفظها على نفسه، ويتعهدها بذلك، مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوئ).
  • الباب الثاني: يحتوي على واجبات الولاة والسلاطين، ويذكر فيه أربع خصال هي أعمدة السلطان: (الاجتهاد في التخير، والمبالغة في التقدم، والتهدد الشديد، والجزاء العتيد)، ويقول فيه: (لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف، ثمّ على الملوك بعد ذلك تعاهد عمالهم، وتفقد أمورهم، حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن، ولا إساءة مسيء).

الأدب الكبير

وضع ابن المقفع هذا الكتاب من أقوال السابقين وذكر في مقدمته فضل الأقدمين على العلم، وشروط دَرْسِه والغاية من الكتاب، وقسمه إلى مبحثين، المبحث الأول يتحدث فيه عن السلطان ومن يصاحبه، وما يجب على كلّ منهما التحلي به من صفات، وفي هذا المبحث بابين، الأول في آداب السطان والثاني في صحبة السلطان، أما المبحث الثاني فقد خصه بالأصدقاء وحسن اختيارهم وحسن معاملتهم، وكتاب الأدب الكبير يشبه الأدب الصغير في الأسلوب والأهداف، فيقدم ابن المقفع في الكتابين النصح والإرشاد للسلطان، إلا أنّ فصول الأدب الكبير أطول من فصول الأدب الصغير، وكلماته مرتبة ومرتبطة ببعضها، فقد ألّفت الكلمات التي تتحدث في موضوع واحد في موضع واحد تقريباً، وهذا بعكس كتاب الأدب الصغير الذي لا يتضمن الارتباط بين حكمه في كثير من مواضعه.[رسالة الصحابة

تنوّعت آثار ابن المقفع التي تركها والتي تعدّ أساساً في الثقافة العباسية، فقد كتب ابن المقفع في الأدب، وعلم الاجتماع والعقل، وفي الإخوانيات، ويذكر المؤرخ جورجي زيدان أنّ مؤلفات ابن المقفع بلغت خمسة عشر مؤلفاً، بعضها مترجم وبعضها ترجمه وزاد عليه، وبعضها من خالص تأليفه، وقد وضعها كلها بأسلوب سلس ولغة صافية، ومن كتبه التي وضعها من خالص تأليفه: (رسالة الصحابة)، والمقصود بالصحابة صحابة الولاة والخلفاء وهم من يقربهم الخليفة ويجعلهم موضع سرّه ويستشيرهم في أموره، وتعتبر الرسالة تقريراً في نقد نظام الحكم ووجوه إصلاحه في مواضيع مختلفة مثل شؤون الرعية، وحال الجند، وفوضى القضاء والخراج، وغيرها من القضايا والشؤون.

ترجمات ابن المقفّع

نقل ابن المقفع إلى اللغة العربية تراثاً ضخماً من الكتب الفارسيّة التي كُتبت باللغة البهلويّة، وهي اللغة الفارسيّة قبل الإسلام، وقد حوت تلك الكتب ثقافة الفرس وأخلاقهم وسير ملوكهم، فلاقت تلك الثقافة استحساناً وقبولاً لدى الخلفاء العباسيين، حيث كانت الدولة العباسيّة في بداية ازدهارها وتطورها، ومن أشهر الكتب التي ترجمها ابن المقفع أربعة كتب، أولها كتاب (خداينامه) وهو في سير ملوك الفرس، وثانيها كتاب (آئين نامه) وهو كتاب يتحدث عن قوانين الفرس القدامى، وعن ملوكهم وكيفية قيادتهم لجيوشهم، وعن الآداب العامة، وثالث هذه الكتب (كتاب التاج في سيرة أنو شروان)، وهو كتاب في سيرة الملك كسرى وأخلاقه، ورابعها (نامت تنسر) وهو كتاب في تشريعات الفرس القدامى، لكن كلّ تلك الكتب فُقدت تقريباً؛ وذلك لأنّ هناك بعض الكتاب ممن جاؤوا بعد ابن المقفع أمثال ابن قتيبة والثعالبي أدخلوا في مؤلفاتهم مادة تلك الكتب لهذا تكون الحاجة إليها مع مرور الزمن قلت فتعرّضت للضياع.

كتاب خداينامه

يعتبر هذا الكتاب منبعاً لمادة الكتب العربيّة الإسلاميّة التي أُلّفت في سير الملوك، فقد جاء في كتاب ابن قتيبة (عيون الأخبار) بعض الفصول والقطع منه، وكذلك الأمر في كتاب (تاريخ الملوك والأمم) للطبري وكتاب (غرر أخبار ملوك الفرس) للثعالبي، كما كان مصدراً أساسياً لكتاب تاريخ سنيّ ملوك الأرض والأنبياء، لحمزة الأصفهاني، وكتاب الشهنامة للفردوسي، وقد تناول كتاب خداينامه لابن المقفع، تاريخ ملوك الفرس، إضافة إلى سرد القصص الفارسية الممزوجة بالأساطير الدينية المأخوذة من كتاب (أوستا) لزرادشت، وقد كان لترجمة هذا الكتاب الأثر الكبير على الحضارة الإسلاميّة التي كانت في بدايات عهدها، حيث سار خلفاء الدولة العباسيّة على نهج ملوك الفرس وقاموا بتقليدهم.

كتاب آئين نامه

كلمة آئين هي كلمة بهلوية تعني الآداب والأساليب، وتعني (آئين نامه) مجموعة الكتب التي تُعنى بتعليم فن من الفنون بما في ذلك قواعد ذلك الفن وآدابه وأصوله، مثال على ذلك كتاب آئين الرمي وكتاب آئين الحرب، وقد تعرض هذا الكتاب أيضاً للضياع كما حصل مع كتاب خداينامه، لكن بقيت بعض القطع منه في كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، وكتب أخرى غيره وتهتم هذه الكتب أيضاً بتحديد الآداب العامة، وطرق التعامل بين الناس وبين الأصدقاء وبين الملك وحاشيته، وقد كان لهذه الكتب دور كبير في نشر الآداب الفارسية في أروقة الحكم، وفي ميادين الحرب في عصر الخلافة العباسية.

كتاب التاج في سيرة أنوشروان

هذا الكتاب من سلسلة كتب (تاجنامة)، وهي كتب تشمل كلّ ما يخص سير الملوك أو ما يمت إلى نظام الدولة وشؤونها ومراسيمها بصلة، وتحتوي على نصائح أخلاقية للملوك والحكام، ترشدهم إلى أساليب حكم الرعية، وإقامة العدل، وقد استوعبت هذه الكتب في البيئة العربية الإسلامية، وقام بعض الكتاب العرب بتأليف كتب على نسقها، مثل كتاب (التاج في أخلاق الملوك) للجاحظ الذي كان مولعاً بابن المقفع، كما أخبر المحقق أحمد زكي باشا، فقد احتوت مادة كتاب الجاحظ على الكثير من أخبار ملوك الفرس، وسيرهم وأخلاقهم وعاداتهم، ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الكتب كانت الأساس الذي بُني عليه ما عرف في ما بعد الآداب السلطانيّة.

كتاب نامه تنسر

يعدّ هذا الكتاب من أقدم الوثائق التشريعيّة والتاريخيّة التي وصلت إلينا عن تاريخ الفرس، وقد حفظ هذه الوثيقة من الضياع نقل المسعودي عنها في كتابيه (التنبيه، والإشراف)، ومسكويه في كتابه (تجارب الأمم)، كما أعاد (أن محمد بن أسفنديار)، ترجمته من العربية إلى الفارسية الحديثة سنة 750هـ، ثمّ ضمَّنه في كتابه (تاريخ طبرستان)، ثمّ ترجم مرة أخرى إلى العربية في العصر الحديث، كما قام الأستاذ يحيى الخشاب بترجمة نامه تنسر إلى العربية ونشره مستقلاً.

ثلاثة كتب منطقية لأرسطو

كان من ضمن الكتب التي ترجمها ابن المقفع من البهلوية إلى العربية، ثلاثة كتب في علم المنطق لأرسطو طاليس، وهي المقولات، والعبارة والقياس، كما ترجم كتاب المدخل وهو لفرفوريوس الصوري، ويبدو أنّ هذه الكتب كانت منقولة في الأصل من اليونانيّة إلى الفارسيّة، فقد ذكر النديم أنّ الفرس كانت قد نقلت في القديم شيئاً من كتب المنطق والطب إلى الفارسيّة، ثمّ نقل ذلك فيما بعد ابن المقفع وآخرون، وقد يكون هذا النقل حدث بعد فتح الإسكندر الأكبر بلاد فارس قبل الميلاد.

سمات أدب ابن المقفّع

إنّ من أهم سمات أدب ابن المقفع هو تحكيم العقل فيه، وإخضاعه للمنطق، فهو كان يزن الفكرة فتأتي الألفاظ على قدر المعاني دون زيادة مملة أو نقص مخل، أما بالنسبة لألفاظه فأسلوبه سهل ممتنع أي سهل في المظهر عميق الفهم، وقد غلب العنصر العقلي والفكري على عناصر الفن في نثره، وهذا أمر طبيعي حيث إنّ ابن المقفع كان يتمتع بالنضج العقلي، والثقافة الواسعة، والعمق الفكري في شؤون السياسة والمجتمع والأخلاق، وأمور الدنيا والدين، ويظهر هذا في كافة مؤلفاته لا سيما في كتابه الأدب الصغير الذي يمثل ذلك خير تمثيل، كما امتلك ابن المقفع ناصية البلاغة التي تظهر في نثره بأرفع درجاتها، وكان يوصي بالابتعاد عن وحشي الألفاظ، ومبتذل المعنى، فيقول مخاطباً أحد الكتاب: (إياك والتتبع لوحشي الكلام، طمعاً في نيل البلاغة، فإن ذلك العي الأكبر)، ثمّ ساد أسلوبه وحذا حذوه كتاب بلغاء، وظل سائداً حتى ظهر أسلوب الجاحظ، هذا واعتبر ابن المقفع من رواد النثر الفني في تاريخ الأدب العربي كلّه.

وفاة ابن المقفّع

مات ابن المقفع مقتولًا وكان عمره ستة وثلاثون عاماً، فقد ذهب ضحية لخلاف بين عبدالله بن علي وعمه المنصور، حيث خرج عبدالله بن علي الذي كان والٍ على الشام عن عمه المنصور سنة 754م وطلب الخلافة لنفسه، فأرسل المنصور إليه جيشاً بقيادة أبي مسلم الخراساني، فانتصر عليه وهرب عبدالله إلى البصرة، فاختبأ عند أخيه سليمان الذي كان والٍ على البصرة، فقام المنصور بعزل سليمان عن البصرة سنة 756م وولّى مكانه سفيان بن معاوية، وظل عبد الله مختبئاً عند أخويه سليمان وعيسى، فطلبه المنصور منهما فرفضا إلا بأمان يمليان هما شروطه، ورضي المنصور بذلك فطلبا من ابن المقفع الذي كان كاتباً عندهما أن يكتب الأمان ويبالغ فيه خوفاً من غدر المنصور بهما.

كتب ابن المقفع أماناً شديد اللهجة حتى أنّه قال في جملةٍ: (ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته)، فغضب المنصور عليه، وأوعز بقتله إلى سفيان بن معاوية الذي كان حاقداً على ابن المقفع بسبب استخفافه به وسخريته منه، لأنّ ابن المقفع كان مغتاظاً من تولّيه أمر البصرة مكان سليمان، فحين وصله كتاب المنصور بأمر بقتل ابن المقفع تربّص به حتى دخل عليه يوماً وأمر بقتله، وقد اختلفت الروايات في طريقة قتله، فقيل إنّه أُلقي في بئر وردم بالحجارة، وقيل إنّه أُدخل حماماً وأغلق عليه فاختنق، وقيل قد قُطّعت أطرافه وأُلقي به في التنور.

السابق
تعريف أبو القاسم الشابي
التالي
كيف توفي الجاحظ