الروسي ذو اللحية الطويلة
ازداد شعوره بالسقم عندما وقف أمام المرآة، لم يعلم عندما وضع رأسه على الوسادة الليلة الفائتة أنّ الغد سيأتي بقرار حاسم، كان دوبلن الرجل العجوز في عقده السادس يعيش وحيداً منفرداً، في بيت كبير ذو الطابقين يحتوي على خمس غرف مع مطبخ كبير كان يعلم أنّه في يوم من الأيام لن يصبح قادراً على صعود الدرج، وبالتالي سيُقدم على بيع بيت عائلته الذي يحتوي على أعمالِ فنية مقلدةٍ لدافينشي، ومايكل آنجلو، من الموناليزا والعشاء الأخير ويوم القيامة وهذه الأخيرة هي أحب واحدة إليه، وضعت هذه اللوحات بالترتيب على جدار ردهة المدخل، الذي احتوى على سجّاد أحمر عجمي عتيق كان قد ابتاعه في سفره.
نظر دوبلن ذو العيون الزرقاء إلى نفسه في المرآة رأى شعره البنيّ الناعم يحمل أمواج من الشيب مسرحاً بشكل أنيق ولحيته الرمادية الطويلة التي كانت تصل لثلاثة أمتار، عندما كان دوبلن يتكلّم لا تظهر شفتاه بل كومة من الشعر ومن خلالها أسنانه التي باتت قليلة داخل فمه، واجهه الآخرين مشكلة برؤية واضحة لابتسامته التي ندر ظهورها على وجهه الحازم، “اليوم سأقوم بحلقك يا كتلة الشعر المسبّبة للحكة” نظر دوبلن إلى لحيته وتذكّر أنّه ومنذ يومين عند استيقاظه وجد نفسه شبه مربوط بلحيته من أثر تحركه المتزايد في الليل، فنادى على خادمه بصوت مذعور ليساعده على النهوض، ولم يكن صباحه بهيجاً عندها فقد اضطر لأخذ حمام مع حبل الشعر الرمادي ذي الثلاثة أمتار.
إقرأ أيضا:حكايات للاطفال قبل النوماستعاد دوبلن وعيه من ذكرياته المؤلمة ولمعت عيناه الزرقاوان وظهرت ابتسامة شريرة خفيّة على ثغره وهمّ مسرعاً، فتح خزانة الحمام تناول مقصّه الكبير الذي حمل بعض الصدأ من قلّة الاستعمال “هذا سيفي بالغرض” كبرت الابتسامة على ثغره واتّسعت حدقتا عينيه قبض بيده اليسرى لحيته تحت ذقنه وهمّ بقصها والحماس يتملّكه حتى طرق الباب، خمدت حماسته فجأة واشتعل الغضب الحانق، استمرّ طرق الباب، وضع المقص على المغسلة وتمتم بغضب “لا يستطيع المرء أن يحلق لحيته بسلام”، توجّه للباب الذي كان صغيراً نسبياً بالبيت الذي يسكنه، فتح الباب وهو يقول بعدائية “من الطارق؟”
وقف ثلاث رجال خلف الباب يرتدون بدلات سوداء أنيقة ويضعون القبعات، حمل أطولهم دفتراً وقلماً والآخرين يمسكون بمعدّات تصوير لكاميرا فوتوغرافية قديمة، وقع نظر دوبلن على فلاش الكاميرا الكبير ذو التركيب الخارجي، بادر الرجل الطويل الذي يحمل دفتراً بالحديث خوفاً من أن يغلق دوبلن الباب “مبروك سيد دوبلن” أظهر ابتسامة عريضة ملئت وجهه “أنا مارتن من جريدة الحدث الروسية نريد أن نلتقط لك صورة تذكارية لدخولك موسوعة غينيكس لأطول لحية بشرية في القرن التاسع عشر” تبادل المصوران النظرات مع ابتسامة مصطنعة…حاول دوبلن أن يخفي تأثّره لكن رغماً عنه ظهرت ابتسامة عريضة بلهاء على وجهه “طبعاً تفضّلوا”، اصطحبهم للداخل أغلق الرجل الأخير الباب ورائه نظر رجال الصحافة على اللوحات الفنية في الممّر مذهولين قال دوبلن: “إنّها للوحات مقلّدة” نظر إليه الرجال باستهزاء لم يكونوا مهتمّين لأصالتها بل تعجّبوا من وضعها على الحائط رأساً على عقب، أكمل “خادمي في عطلته الأسبوعية لذلك عذراً على الفوضى”…نظر الرجال ذو البدلات الأنيقة حولهم لم يجد أحدهم أي أثر للفوضى لكن لم يكترث أحدهم لذلك.
إقرأ أيضا:قصة أوزوريسصعد دوبلن الدرج للطابق العلوي وهو يفكّر أنّ كتلة الشعر الرمادية الطويلة ترسل شكرها وامتنانها للضيوف الثلاثة أصحاب البدلات بتوقيتهم الممتاز، شاهد دوبلن نظراتهم المستغربة على لحيته، لم يعلموا أنّهم لو تأخّروا قليلاً لتركت فقرة صدّق أو لا تصدّق فارغة هذه الليلة في جريدة الحدث الروسية، وباتت اللحية الرمادية المسجّلة في غينيس في القمامة تفوح منها روائح القذارة.
قصد دوبلن غرفة فارغة وطلب منهم الانتظار قليلاً ليقوم بتجهيز نفسه، ذهب وارتدى بدلته الأنيقة وسرّح شعره ألقى نظرة على المرآة ثمّ توجّه عائداً للغرفة الفارغة توسّط الغرفة كرسي خشبي ذو تصميم قديم من خشب رخيص وزخرفة مبالغ فيها، لطالما ذكّرته بأبيه الذي أحبّ الجلوس عليه على عكس دوبلن تماماً الذي يتألم من الجلوس عليه ويسخط على هذا النوع من الكراسي، كان مارتن قد أعطى تعليماته لمرافقيه، وتاق لإشعال سيجارة لكنّه انتظر حتى يخرجوا من بيت الأشباح هذا وكان يخشى من توبيخ السيّد دوبلن له.
همّ دوبلن بالجلوس، كانوا قد جهّزوا آلة التصوير ووضعوها على مسندها وضبطوا مسافتها لتناسب مستوى الكرسي وبعده عنها، ركّبوا الفلاش الخارجي الكبير الذي يشبه مدفع الليزر للأطباق الطائرة أومأ المصوّر إليه باستعداد وهو يمسك زر الالتقاط واضعاً رأسه تحت ملاءة الكاميرا “ابتسم سيد دوبلن لن نقوم بقتلك” كان التوتّر والخوف يظهران على وجه دوبلن من فلاش الكاميرا ظناً منه أنّ من يسلّط عليه هذا الوميض تتلبسه الأرواح الشريرة، لكنّه كان يكابر حتى لا يعلم أحد بمعتقده الزائف، ردّ دوبلن بحزم “إنّها ليست المرة الأولى التي آخذ فيها صورة” حاول الابتسام لكنّها لم تظهر من بين هذا الشعر، أصبح يتلو صلواته بصمت… كان لدوبلن نظرة حازمة تظهر عليه عندما يتوتّر قبض على طرفي الكرسي بيديه ليخفي توتّره من هذا الفلاش المثير للريبة وفي لحظة إطلاق هذا الوميض الأبيض…استيقظ.. دوبلن من نومه مذعوراً من الفلاش وهو يشهق ويتنفس بسرعة ويردّد “كان حلماً.. كان حلماً … الأرواح الشريرة لا ابتعدي”…احتاج لنفس عميق ليستعيد توازنه وينهض من سريره، كانت لحيته ملتفّة على عنقه كأفعى تريد خنقه، تسارع إلى سمعه طرق الباب تنبّه عقله “إنّه الباب”، كان موعده مع جريدة الحدث الروسية لهذا الصباح، لبس نعليه كانا بجانب السرير وركض مسرعاً باتجاه الباب، اهتّزت لحيته الملفوفة، أدرك من في الباب قائلاً: “لا بدّ أن استعدّ للتصوير” ومسك المقبض ليفتحه وهو يبتسم مرحباً بالصحفيين.
إقرأ أيضا:قصص وحكايات للاطفال