مُقَدِّمة
(من كانَ يصنعُ المعروفَ لبعض منافع الدُّنيا، فإنما مَثلُه فيما يبذلُ و يُعطي، كمثلِ الصيَّاد و إلقائِه الحَب للطَّير لا يُريد بذلك نفعَ الطَّير)
هذا الإقتباسُ من كتابِ كَليلةٍ و دِمنة، و حينما نتحدَّث عن كِتاب كليلة و دمنة نتحدثُ عن حكاياتٍ جميلةٍ و قصصٍ مثيرةٍ تملؤُها الإثارةُ و السَّردُ الرائعُ فيما بين الحيوانات، فتلكَ القصصُ المليئةُ بالعبرِ والحكمِ و أساطيرِ الحيوانات، و كل قصةٍ في كتابِ كليلة و دمنة بداخلها قصصٌ أخرى تَروي حكاياتٍ أشبهَ ما تكونُ بالمدينةِ الفاضلةِ المليئةِ بالخيرِ و الأخلاق .
التعريف بكليلة ودمنة
كَليلة و دِمنة هي : مجموعةٌ من الحكاياتِ تعود إلى القرنِ الرابع الميلادي، حيث كان يروريها الفيلسوف الهندِّيُ (بيدبا ) لِملكهِ (دبشليم)، وهي خلاصة من الحِّكم مروِّية بأسلوبٍ مسلٍ على ألسن الحيوانات، و ذاتِ طابعٍ يرتبطُ بالحكمةِ والأخلاقِ والسياسةِ ومنهجِ الحكم . ومما كتبه ابن المقَّفع في( باب عرض الكتاب ) : ” هذا كتاب كليلة ودمنة، وهو مما وضعه علماء الهند من الأمثال والأحاديث التي أُلهموا أن يُدخِلوا فيها أبلغ ما وجدوا من القول في النحو الذي أرادوا. ولم يزل العلماء من أهل كل ملةٍ يلتمسون أن يعقل عنهم، ويحتالون في ذلك بصنوف الحيل؛ ويبتغون إخراج ما عندهم من العلل، حتى كان من تلك العلل وضع هذا الكتاب على أفواه البهائم والطير”. وقد ترجمت هذه الحكايات من الهندِّية الى الفارسِّية على يد طبيب فارسِّيٍ يدعى (بَرْزَوَيْه) ثم ترجمها ابن المقفَّع الى العربيَّة فكانت من أوائل الكتب التي نقلت الى العربيِّة في تلك الفترة .
إقرأ أيضا:من مؤلف كتاب تاريخ الأمم والملوكمن هو ابن المقفَّع
عبد الله ابن المقفَّع (724 م ـ 759 م) وهو مفكّر فارسِّي اعتنق الإسلام ، وعاصر كلاً من الخلافة الأمويَّة والعباسيَّة . كان يسمى بالفارسِّية روزبه بن دادویه. ولقِّب بابن المقفَّع لان الحجَّاج ابن يوسف الثَّقفي عاقب أباه فضربه على يديه حتى تقفَّعتا أي (تورمتا) .تعلم العربية، و ترجم العديد من الكتب من اللغة الفارسِّية_ وتسمى بالبهلوية_ الى اللغة العربية ، ومنها كتاب كليلة ودمنة. ولم يكتف بالترجمة إلى اللغة البهلوية القديمة للفرس فقط، بل إنه جعل من كتاباته فصلا آخر يضاف إلى كليلة و دمنة بقلمه، بمعنى أنه أضاف أبواباً الى الكتاب قام هو بكتابتها باللغّة العربية .لقد مر الزمان على كتاب كليلة و دمنة وترجم الى العديد من اللُّغات ، كذلك صيغت بشتى الأجناس و الأصناف الأدبيَّة ما بين القصص و الروايات و الترجمات و الشعر .
أصل الكتاب قبل الترجمة
هو كتابٌ هندِّي الأصل، سمِّي( بنجا تنترا)، أي الفصول الخمسة. ألَّفه فيلسوف فاضلٌ من البراهمة يدعى (بيديا)،كان في نظر تلامذته “الحكيم الفاضل واللبيب العاقل”، ويُقال إنّ ملك الفرس كسرَي آنوشروان (531-579م) أمر بترجمته إلى اللغة البهلويّة -وهي اللغة الفارسِّية القديمة- واختار لهذه المهمة طبيبه برزويه لعلمه ودهائه . ثم اختار ابن المقفَّع هذا الكتاب لترجمته الى اللغة العربية لغايات يُدركها القارئ المتمعن واسماها بكليلة ودمنة.
إقرأ أيضا:أجمل روايات الحبشخصيات الكتاب
شخصيَّات كليلة و دمنة هي حيوانات برية تعيش في الغابة، فكليلة ودمنه هما اثنان من حيوان ابن آوى ،والملك أسدٌ ، و خادمه ثورٌ اسمه شتربة، وغيرها من حيوانات الغابة التي تدورمعظم القصص على ألسِّنتها، يدور حديث الحيوانات فيه عن الخير والحكمة و الأخلاق الحميدة في بناء المجتمع المتداخل بحياة اجتماعيَّةٍ ترتقي بأبنائه ، وتتبع نمط الحكاية المثلية – قصة على لسان الحيوان يراد بها معالجة واقِّع الإنسان – فهو إذاً كتابٌ وضع على ألسنة البهائم و الطيور يحتوي على العديد من الايحاءات والرموزلايصال تعاليمٍ أخلاقيَّةٍ موجَّهة الى افراد المجتمع كافةً من حاكمٍ ومواطن . كتاب كليلة و دمنة مليىءٌ بحكاياتِ الحيوان لا يكاد يخلو منها بابٌ من أبوابه و في كل بابٍ حكايةٌ طويلةٌ تتداخل فيها حكاياتٌ قصيرة .فهو كتاب هادف و ليس مجرَّد سردٍ لقصصٍ وحكاياتٍ من عالم الحيوان بل يهدف إلى النصح الأخلاقي وإصلاح المجتمع وفيه العديد من التَوجيهات السياسِّية وسأذكر هنا أمثلةً مختصرةً عن بعض أبوابه ؛ فباب الحمامة المطَّوقة يحُّث على التعاون ،و باب الأسَّد وخادمه يتناول خفايا السياسَّة الدَّاخلية في الدَّولة. بينما يتناول باب البوم و الغربان السياسَّة الخارجيَّة. وغيرها العديد من الأبواب من باب القرد والغَيلم، الناسك و ابن عرس ،الأسد و ابن آوى ، اللبؤة و الأسوار و الشغبر ، الناسك و الضيف ، الحمامة و الثعلب ،و مالك الحزين.(1)
إقرأ أيضا:رواية الرابح يبقى وحيداً لباولو كويلوبناء الكتاب
يحتوي كتاب كليلة ودمنة على أربع مقدماتٍ و أربعة عشر حكايةٍ رئيسيَّة تم توزيعها على خمسة عشر بابًا كالتالي: (5)(1)
- باب الأسد والثور؛: يبحث في صداقة الأسد و الثور و حسد دمنة للثور و دخوله بين الأصدقاء بالوشاية و الوقيعة.
- باب الفحص عن أمر دمنة؛ وهو يكمل الباب الأول وموضوعه سوء عاقبة الخائِّن .
- باب الحمامة المطوَّقة ؛ كما كتب فيه: ( إخوان الصفاء خير عونٍ علي أمور الدنيا و الاخرة ).
- باب البوم والغربان ؛ وموضوعه الرئيسيُّ (لا يأنس العاقل لعدوِّه و إن أظهر طيبة اللِّئام).
- باب القرد والغيلم؛ يتحدث عن غيرة زوجة الغيلم من القرد وكتب فيه: (لاشيء أخف و أسرع تقلُّبا من القلب فالتمس ما في النفوس باستمرارٍ و إذا دخل قلبك ريبةٌ فخذ بالحزم من التحفُّظ ) .
- باب الناسك وابن عرس؛ توضِّح ان العجلة من الشيطان ( العجلة دون رويَّةٍ و نظرٍ بالعواقب من الشيطان ) .
- باب الجرذ والسِّنور، ويتحدث فيه عن الحاجة أحيانًا لموالاة بعض الأعداء عند كثرتهم حول الإنسان ، (مهادنة العدوِّ تكون دون صداقةٍ معه)
- باب ابن الملك والطائر فنزة ؛ وموضوعه الرئيسيُّ ضرورة ابتعاد أصحاب الثأرعن بعضهم ( الواتر إذا دنا من الموتور، فقد عرض نفسه للهلاك. ولا ينبغي لصاحب الدُّنيا إلا توقي المهالك والمتالف، وتقدير الأمور وقلَّة الإتِّكال على الحول والقوة، وقلَّة الإغترار بمن لا يأمن)(6).
- باب الأسد والشغبرالناسك ؛ يتحدَّث عن الملك الذي يراجع من عاقبه بلا ذنب .( من يراجع من أصابه منه عقوبة بغير جرم أو جفوة دون ذنب )
- باب إبلاذ وبلاذ وبراخت؛ ويناقش عناصرالإحتفاظ بالمُلك .( يَحفظ المَلك مُلكه و سلطانه بالحلم و المرؤة و الشجاعة و الجود )
- باب اللبؤة والإسواروالشغبر؛ ويحث على العفو عند المقدرة.(دع ضُر غيرك اذا قدرت عليه)،(افعل ما شأت كما تدين تدان)
- باب الناسك والضيف؛ يحثُّ على القناعة وينهى عن الطمع بما عند الآخرين .(لا يعد حكيماً من طلب ما لا يجد ، وإنك سعيد الجد إذا أقنعت بالذي تجد ، وزهدت فيما لا تجد).
- باب السائح والصَّائغ ؛ وويتحدث فيه عن الذي يضع المعروف في غير موضعه، ويرجو الشكر عليه .( ضع المعروف و الإحسان عند أهل الوفاء و الكرم )
- باب ابن الملك وأصحابه ؛ وتبين رِفعة الجاهل فى الدنيا ، وابتلاء العاقل الحكيم . (لم أزدد في الدّنيا وشهواتها نظرًا، إلا ازددتُ فيها زهادةً ومنها هربًا)
- باب الحمامة والثعلب ومالِّك الحزين ؛ وتبين عاقبة تقديم المشورة للغير ، مع عدم تقديمها للنفس .(إذا كنت ناصحا فانصح نفسك أولًا و لا تنصح أهبلا).