قصص دينية

قصة أصحاب الأخدود

أصحاب الأخدود

أصحاب الأخدود هم رعيَّةُ آخر ملوك حِميَر؛ وهو زِرعَةُ بن تبان أسعد الحِميَريّ المَعروف بذي نواس، وقد كان هذا الملك يهوديَّاً اعتنقَ عددٌ من رعيّته النصرانيّة، فسار إليهم بجيشٍ من حِميَر؛ حتى يُجبرهم على الرجوع عن دينهم الذي اعتنقوه، وخيّرهم بين القتل، أو الرجوع إلى دينه، فاختاروا القَتل والصَبر على هذا المحنة، فشُقَّت لهم الأَخاديد*، وتمّ رميهم فيها، ثمّ أُضرِمت بهم النيران إلى أن احترقوا، وماتوا، والمَلك وحاشيته ينظرون إليهم، أمّا في ما يتعلّق بعددهم، فقد قِيل إنّهم كانوا سبعينَ ألفاً، وقِيل عشرين ألفاً، وقِيل اثني عشر ألفاً،  وذُكِر أنَّ أَصحاب الأُخدود لا يُقصَد بهم من وُضِعُوا في النار وأُحرِقوا فيها، وإنَّما من شقَّ الأَخاديد وحفرها؛ ولذلك يقول الله -تعالى- في كتابه العزيز: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)؛ أي لُعِن أصحاب الأخدود بسبب فِعلهم الشنيع، وهو حفر الأخاديد، وإشعال النيران بالمؤمنين.

الغلام والراهب

حدّث النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أصحابه عن قصّة ملكٍ من ملوك الزمن الغابر، وهو ملك كانَ لهُ ساحرٌ مُقرَّب، فلمّا تقدَّم العمر بهذا الساحر، طلب من المَلك أن يبعَثَ إليه غُلاماً؛ حتى يُعلِّمه السحر، فأرسل إليه الملك غلاماً ليُعلِّمه، وكان هذا الغلام يذهب باستمرار إلى الساحر، وفي أحد الأيام صادف في طريقه إلى الساحر راهباً، فاستمع إلى كلامه، وأُعجِبَ به، إلّا أنّ الساحر كان يضربه؛ بسبب تَأَخُّره عنه، فشكى الغلام ذلك الأمر إلى الراهب الذي أرشده إلى أن يقول للساحر عندما يسأله: “إنّما حبسَني أهلي”، وإذا سأله أهله يقول: “إنّما حبسَني الساحر”، ويوماً ما رأى الغلام في طريقه دابَّة عظيمةً تقطع على الناس طريقهم، فقال في نفسه: “اليوم أعرف الساحر أفضل عند الله أم الراهب”، فقال: “اللهمّ إن كان شأن الراهب عندك أفضل من الساحر فاقتل هذه الدابّة بحجري”، ثمّ أمسَك حجراً، ورمى به الدابّة، فقُتِلَت، فأدرك أنّ أمر الراهب أفضل عند الله من أمر الساحر، ثمّ ذهب إلى الراهب وحدَّثَهُ بما حصل له، فأخبره الراهب بأنّ شأنه سيكون عظيماً، وأنّه سوف يُبتَلى في حياته، وطلب منه أن لا يَدُلَّ عليه إذا تَعرّضَ للابتلاء.

إقرأ أيضا:قصة عبد الرحمن بن عوف

الغلام وجليس الملك

بلغ أمر الغلام مَبلغاً عظيماً، حتى أنّه كان يشفي الناس من أسقامها، ويُبرىء الأكمه، والأبرص بإذن الله، ويُشار إلى أنّه اتَّبع هذا الأمر أسلوباً في الدعوة إلى دين الله -تعالى-؛ حيث كان يمرّ على أهل البلاء والأسقام، فيشترط عليهم الدخول في دينه، والإيمان بالله -تعالى-؛ حتى يدعوَ الله أن يشفيَهم من أسقامهم، فلم يبقَ في قريته أحد يعاني مرضاً إلّا أسلَم، واتّبع دينه، فسمعَ أحد جلساء الملك به وكان يشتكي مرضاً، فأتى إلى الغلام بهدايا كثيرة؛ كي يَشفيَه من مَرضه، فقال له الغلام: “إنّني لا أشفي وإنّما يشفي الله”، وطلب منه أن يؤمن بالله؛ حتى يدعوَ الله له بالشفاء، فآمنَ جليس الملك بالله، ثمّ دعا له الغلام فشُفِي من مَرضه، إلّا أنّ الملك لاحظَ شفاء جليسه من مَرضه، فسأله عن سبب شفائه، فقال له: “إنّما شفاني الله”، فغضب الملك من ردّه؛ لأنه كان يَدَّعي الربوبيَّة من دون الله، فقال له جليسه: “إنّ الله هو ربّي وربّك”، فأمَر به المَلك فعُذِّب إلى أن دلّ على الغلام.

الغلام والملك

بعدما دلّ جليس الملك على الغلام أُتِي بالغلامِ حتّى وقف عند الملك، فأمر به فُعذِّب حتى دلّ على الراهب، فأُتِي بالراهب فأمر به فعُذّب حتى يرجع عن دينه إلّا أنّه أبى، فشُقَّ بالمنشار شِقّين حتى مات، ثمّ أُتِي بجليس الملك فعُذِّب حتى يرجع عن دينه فأبى، فأُتِي بالمنشار فشُقَّ به نصفَين حتى مات، ثمّ أُتِي بالغلام حتى يرجع عن دينه فأبى، فأمر الملك أتباعه أن يأخذوه إلى ذروة الجبل، ويُخيِّروه بين أن يرجع عن دينه، أو أن يُرمى من الجبل، فدعا الغلام ربّه بقوله: “اللهمّ اكفنيهم بما شئت”، فكفاه الله شرّهم، إذ رجف بهم الجبل؛ فتردّوا إلى أسفله، ثمّ رجع إلى الملك فأدرك نجاته، فأمر أصحابه أن يحملوه في سفينة حتى إذا كانوا في عُرض البحر ألقَوه منها، فدعا الغلام ربّه وهو على السفينة أن يكفيَه شرَّهم فاستجاب الله دعاءَه؛ إذ انكفأت السفينة بهم فغرقوا وماتوا جميعاً، وخَرَجَ الغُلام سالماً من بينهم، ثمّ أتى الغلام إلى الملك، وبيَّن لهُ استحالة قَتله إلّا بطريقةٍ واحدة، وهي أن يصلبه على جذعٍ، ثمّ يجمع الناس في صعيد واحد، ويأخذ سهماً من كنانة* الغلام، فيقول: “باسم الله ربّ الغلام”، ثمّ يرمي السهمَ، ففعل الملك ما طلبه الغلام، ورمى الغلام بالسهم، فوقع في صِدغه*، ووضع يده على صِدغه فمات، فصاح الناس: “آمنَّا بربّ الغُلام”.

إقرأ أيضا:خروج يوسف من السجن

أصحاب الأخدود والملك

شاهد الذين جمعَهم الملك ما حصل للغلام فآمنوا جميعاً بالله -تعالى-، فاغتاظ الملك لذلك بعد وقوع ما كان يحذَر منه، فأمر بالأخاديد أن تُشَقّ في سِكَك المدينة، وأُلقِي فيها كلّ من آمنَ بربّ الغُلام، وأُضرِمت فيهم النيران؛ بسبب رفضهم الرجوع عن دينهم، وقد تضمّنت قصّة أصحاب الأخدود موقف المرأةِ المُرضِع التي كانت في زمرة المؤمنين الذين تعرّضوا للامتحان حينما شقّ لهم الملك الكافر الأخاديد، وساومهم على اقتحام النيران، أو الرجوع عن دينهم، وقد تحدّثت الروايات عن موقف تلك المرأة الصابرة حينما أرادت الرجوع عن موقفها بعد أن أشفقت على نَفسِها ورَضيعها، فإذا بالرضيع يُخاطبها بكلمات بثَّت في نفسها القوّة والصبر على ذلك البلاء، ومن تلك الكلمات قوله: “اصبري يا أمّاه فإنّك على الحقّ”، وفي رواية أخرى أنّه حَثّها على المُضِيّ في أمرها، واقتحام النار، وعدم الجزع.

قصة أصحاب الأخدود في القرآن الكريم

جاء ذِكر قصّة أصحاب الأخدود في سورة البروج، قال -تعالى- في كتابه العزيز: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ*وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ*وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ*قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ*النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ*إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ*وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ*الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ*إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ*إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ).

إقرأ أيضا:قصة عبدالله بن عمر

الدروس المُستفادة من قصة أصحاب الأخدود

يُستفاد من قصة أصحاب الأخدود عدد من الدروس والعِبر، يُذكَر منها:

  • أهمّية تنشئة الأبناء، وتربيتهم التربية الصالحة؛ فقد تضمّنت قصّة أصحاب الأخدود ذِكر شخصيّة الغلام الذي آمن بالله -تعالى-، ونَبَذَ الشِّركَ، وضَحَّى بنفسه كي يُؤمن الناس جميعاً بالله، وهذا يَدُلّ على أهمّية التربية؛ لأنّها تُخرِجُ للمُجتمع جيلاً قادراً على تجديد الدين، وتحقيق النصر للأُمّة على أعدائها.
  • التأكيد على مسألة تعلُّق القلوب بالله -تعالى- وحده، فلا ينبغي أن يتعلّق قلب الإنسان بأفعال أحد من البشر؛ لأنّ قلوب العباد عُرضَةٌ للتغيير والتَقَلُّب، وإنّما ينبغي أن ترتبط القلوب بخالقها وحده، وقد دلّ على ذلك مَوقف الغلام الذي أعطاه الله -تعالى- القدرة على شفاء المرضى، وإبراء الأكمه، والأبرص؛ إذ كان يُرجِعُ ذلك الفضل إلى الله -تعالى-، ولا يَدعو لأَحدٍ مِنَ المرضى إلّا بعدَ أن يؤمن بالله؛ حتى تُدرك النفوس أنَّ الشِفاءَ بِيَد الله وحده.
  • وجود البطانة الفاسدة حول الطغاة أمرٌ واقع في كلّ زمان ومكان؛ فقد تضمّنت القصّة ذِكر شخصيّة الساحر الذي كان يُزيِّن للملك أعماله، ويُعينه على باطله؛ بهدف تحقيق مصالحه، ومآربه.
  • ضرورة التوكُّل على الله، والاعتماد عليه في الأمر كلّه؛ فقد كانت ثقة الغُلام بالله -تعالى- عَظيمة، ودلّ على ذلك موقفه حينما أخذه أتباع الملك إلى أعلى الجبل؛ كي يَقذِفوه منه، فدعا ربّه أن يكفيَه شرَّهم بما شاء، وكيفما شاء، فاستجاب الله له دعوته بقدرته، وتدبيره.
  • الإصرار على تحقيق الهدف من الدعوة إلى الله؛ فقد صَبَرَ الغُلام على محنة الابتلاء، والقتل، وفي كلِّ مرّة فشل فيها أتباع الملك في قتله، كان يرجع إلى الملك ليُبيّن له عجزه عن قتله؛ حتى يُحقِّق هدف الدعوة المُتمثّل بظهور الحقّ على الباطل، وإيمان الناس بالله -تعالى-.
  • بيان حقيقة النصر على الأعداء؛ فقد أكّدت قصّة الغلام على أنّ النصر لا يعني بالضرورة إزهاق نفوس الكافرين، وسلامة نفوس المؤمنين وأموالهم، وإنّما يتعلّق النصر من خلال تحقيق الأهداف؛ فقد تحقَّق بسبب موت الغلام إيمانُ القوم، وهذا نَصرٌ بلا شكّ؛ لأنّ فيه تحقيق هدف الدعوة إلى الله، كما أنّ حرق المؤمنين في الأخدود، وإزهاق أرواحهم هو نصرٌ كذلك؛ لأنّه دلالة على الثبات على الحقّ والمبدأ، وعدم الموافقة على الباطل.
  • الابتلاء سُنّة إلهيّة لا تتغيّر ولا تتبدّل؛ فالله -سبحانه وتعالى- يبتلي الناس؛ حتى يعلم الصادق من الكاذب، ويَميز الخبيث من الطيِّب؛ فالطريق إلى الجنّة محفوفة بالابتلاء، قال -تعالى-: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
  • التجرُّد الكامل من حظوظ النفس الإنسانيّة، والإخلاص لله -تعالى-؛ فقد أخبر الراهب الغلام بأنّه أفضل منه حينما أعطاه الله القدرة على إبراء المرضى، وبيَّن له أنّه سيُبتلى في طريق دعوته، ورجاه أن لا يدلّ الناس عليه إذا تعرّض للابتلاء، كما تمثَّل التجرُّد لله في شخصيّة الغلام حينما دلّ الملكَ على الطريقة التي يمكنه قتله من خلالها على الرغم من عِلمه بأنّ ذلك سيُؤدّي إلى إزهاق روحه.
  • تصبُّر المؤمنين حينما يتعرّضون للأذى والتعذيب من قِبل الظالمين؛ فقد قصّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- على صحابته قصّة الغلام الذي تعرّض لمحنة شديدة على الرغم من صِغر سِنّه، فلم يُثنِه ذلك عن دعوته، بل ظلّ صامداً على الحقّ حتى عُذِّب، وأُزهِقت روحه، كما هو الحال مع الراهب، وقد أراد النبيّ من تلك القصّة أن يؤنِسَ صحابَته، ويُقوِّيَ إيمانهم تجاه ما يتعرّضون له من المِحَن والشدائد، وقد ظهرت آثار تلك التربية في مواقف الصحابة -رضوان الله عليهم- حينما صمدوا في وجه التعذيب، والتقتيل.
السابق
بماذا اهلك الله قوم صالح
التالي
تلخيص قصة أصحاب الكهف