قصة للأطفال
هذه القصة من التراث الأمازيغي الغني بأروع القصص الهادفة . قصة ” لونجا ”
-“”لونجا” الفتاة ذات الجمال الرائع الذي بلغت شهرتها الآفاق، لا يتزوجها إلاّ الشاب الذي يدافع عنها ويدفع مهرها غالياً.. وهو المخاطرة بحياته وسط الأهوال…!! كيف بدأت قصتها؟
الزمن يمر والأجيال المتعاقبة لا تبرح تنسج بأناملها وألسنتها صوراً شتى لحكايات نعتقد أنها منا.. قد تكون حقيقة أو خيالاً.. أو مجرد أسطورة نستلطفها فتشوقنا لمتابعة أحداثها حتى النهاية.
-كانت جدتنا “حجيلة” تحلب الماعز والنعاج في الزريبة بعدما أدخلها الصبية القادمون من المرعى حيث الكلأ واللعب والمرح، مع الغروب حينما تنزع الشمس ثيابها لتنام في حضن الجبال أو لتستحم بماء البحر وتنام بين الأمواج، المهم أنها تغيب حتى ولو أنها لن تنام.. هكذا.. هم يمزحون.. لا يعرف من حديثهم سوى هذه الضحكات المعبرة على قوة الأمل في قلوبهم البريئة..
يجلسون حول “قصعة” الكسكس بالحليب.. يأكلون في سعادة،، يتمعنون في ملامح الجدة،، يترقبون شفتيها حين تنبس بكلمة…… وما تقص عليهم من قصصها الجميلة المسلية.!!. تتنهد الجدة “حجيلة” وهي تضع الملعقة، قائلة: الحمد لله،، اللهم أدمها نعمة وبارك لنا كما باركت في حياة “لونجا”… ويقاطعها الأبناء وأعينهم تترجاها… لونجا… لونجا… ما قصتها؟
تنهض الجدة “حجيلة” لتتكئ إلى وسادتها ثم تعتدل في جلستها وتبدأ القصة قائلة: “لونجا” اسم أسطورة الجمال الفاتن،، الفتاة السحرية القادمة من أعماق التاريخ، ذات قوام رشيق وهامة تغطيها خصلات شعرها الذهبي المسترسل على ظهرها،، كانت حلم الشباب،، كل واحد يريد الوصول إلى رضاها ليتزوجها ويفوز بجمالها الباهر الذي شغل بال الجميع،، لكن مزارها بعيد ودون ذلك أهوال ولا يغامر بنفسه إلاّ الشجاع، الذي لا يبالي بالموت من أجل العيش اللذيذ والحياة السعيدة.
إقرأ أيضا:كما تدين تدان-
- *
في قلعة عظيمة تضاهي السماء،، يعيش الملك وزوجته وابنهما الوحيد “الأمير زهّار” الذي عرفته البلدة بمروءته وشهامته وطيبة قلبه وشجاعته الفائقة وبجوار قصر الملك يسكن شقيقه “شقران” الذي أَضنته الحياة بأوجاعها وآلامها،، وعسرت عليه الليالي بمحنها،، نظراً لأطماعه الكثيرة وحسده الكبير. في إحدى الليالي جلس شقيق الملك يفكر في حاله وفي ثروة أخيه الملك العجوز الذي تمتلئ خزائنه بالأموال الطائلة التي جعلت سبب عشيته مترفة بالبذخ والملذات فسكن قلبه الحقد والضغينة وفكر في حيلة ينتقم بها لحاله.. فخطرت بباله فكرة للاستيلاء على ثروة أخيه، قال في نفسه:
-ينبغي القضاء على ابن أخي الملك،، لأصبح الوريث الوحيد للمُلك. وما هي إلاّ لحظات حتى أسرع الخطى نحو العجوز الداهية يستشيرها في طريقة تدبير المصيدة للإيقاع بالأمير الشاب “زهار” والتخلص منه إلى الأبد….
جلس الاثنان،، يتبادلان الحديث في همس، يتناجيان في خبث ومكر،، كان بلحيته السوداء وبرنوسه الأصفر وعمامته الملتوية كنوم الثعابين ومن عينه تتطاير شرارات النار الموقودة في قلبه يشبه العجوز الشمطاء ذات النابين البشعين وهي تعصب رأسها المملوء بالدهاء والحيل التي تفوق حيل الشياطين.. كانت عيناها المرعبتان تحيط بهما تجاعيد المكر، والوشم الأخضر يملأ وجهها الشاحب،، وفي ذراعيها أساوير الفضة المنقوشة وفي حجرها كيس النقود، تتلمسه بأناملها ثم تتحدث خفية مع غرابها الأسود القابع على كتفها أو تنظر إلى الجانب الآخر نحو القط الأسود بنظراته الماكرة ثم ترسل تساؤلات لهذا الشيء الذي يلمع بين يديها والقط يشجعها….. .
إقرأ أيضا:تلخيص قصة قنديل ام هاشماتفق الاثنان على الأمر شريطة أن يكمل لها المبلغ المتبقي حينما تقضي على الأمير “زهار”……. في اليوم الموالي راحت العجوز إلى الغابة حيث البئر العميقة لتملأ جرتها وتستطلع أخبار الأمير “زهار”،، تتفحص أعماله ومواعيده وأوقات خروجه،، وبينما هي في البئر إذ يقف الأمير بشعره الأسود المتدلي وبرنوسه الجميل وصداريته المطرزة بالذهب الخالص يتوسط خصره حزام مزركش علق به سيف ينام في غمده وهو على جواده الأدهم،، يدنو الأمير “زهار” من الحوض، بعدما ابتسم في وجه الماكرة حيّاها، قائلاً لها: -طبت، هلاّ فسحت جانباً من المكان حتى يشرب الحصان…
نظرت إليه “الماكرة” وهي مقطبة الحاجبين،، وقالت ساخرة،، مستهزئة: -آه، أحسبت أنك بشجاعتك وشهامتك التي رفعتك بين الأهالي وجمالك الذي تترنح به هنا وهناك على هذا الجواد المسكين،، تفعل ما تشاء؟ من تكون أمام “لونجا” الفاتنة؟ تعجب الأمير الشاب”زهار” مستغرباً أمرها وعاد من حيث أتى حائراً،، مشغول البال،، شارد التفكير يسأل ولا يجد جواباً لسؤاله، حيرته تزداد من يوم لآخر… لم يطق صبراً فأرسل حراسه لإحضار الداهية وما هي إلاّ ساعات حتى كانت العجوز أمامه،، روت له حكاية “لونجا” ابنة العملاق المتوحش التي تعيش في غياهب الدنيا بأقصى المعمورة حيث لا أحد يمكنه أن يصل إليها، حتى يرى سحرها وروعتها لأنها تقيم وسط متاهات الموت والهلاك….
-
- *
امتطى الأمير الوسيم عربة،، تاركا البلدة متوجهاً إلى الناحية التي أشارت لها العجوز حيث توجد “لونجا” ابنة العملاق المتوحش التي ملكته دون أن يراها، والأذن تعشق قبل العين أحياناً..!! كانت لـه شمس تضيء دربه المحفوف بالمخاطر، صورتها لم تفارق مخيلته طيلة سفره،، وجهها الجميل تتغمده الغيوم السوداء لكن حسنها يومض كالبرق من خلال السحب، خصلات شعرها المتطاير تلف سماء فكره.. نعم لقد كان طيفها رفيق سبيله طول المدة التي كان يقضيها بحثاً عن المكان المسمى غياهب الدنيا… قصد بيت أحد الشيوخ الحكماء وقص عليه حكايته رغبة في المساعدة بالرأي. رحب به الشيخ واستضافه إذ قدّم له الطعام والحليب في بيته المتواضع المزين بالأواني المزخرفة التي تبدي مهارة اليد هوبة في الإتقان والإبداع،،، الشيخ الوقور بلحيته البيضاء المتدلية… تجاعيد الزمن وخبايا الأيام على جبينه مرسومة، تذكره بتعاسة الماضي وسوداويته المضنية،، إنه شيخ يعرف أسرار الحياة، كثير التجارب، راجح العقل، جامع الأخبار لذلك يسمى الشيخ المدبّر،،، قال للأمير في شفقة وحنو: -أدرك أيها الأمير قصتك واعرف أن طريقك صعب، لأجل الوصول إلى الحسناء الموت يواجهك كل لحظة،، فكم من فارس مات قبلك في طريق غياهب الدنيا ولم يصل إلى “لونجا” ويا ليتك تنسى هذه الفتاة وتعود إلى أبيك تساعده في أمور السلطة، وقف الأمير “زهار” قائلاً:
إقرأ أيضا:حكايات من الشرق-لا يهمني شيء ما دمت بعيداً عن “لونجا” لابد أن أصل مهما كان الثمن… قال له الشيخ: -إذاً عليك بتنفيذ التوجيهات التي قدمتها لك واحذر الصخرة العجيبة وستصل إلى “لونجا” بإذن الله…
-
- *
اختار الأمير جواده الأدهم رفيقاً له وسار في طريقه أياماً ولياليَ، قطع خلالها المسافات الطويلة ورأى الأهوال المرعبة، واجهها بشاعة،، وشاهد الصخرة العجيبة التي تفتح وتغلق بسرعة غريبة، وفي الفضاء ترقص الوطاويط رقصة الموت وتوطوط منذرة الأمير بخطورة الأمر،، لكن الأمير “زهار” كان شجاعاً وذكياً واستطاع أن ينفذ من الثغرة بخفة وينجو من فم الصخرة كالبرق ودخل بأعجوبة خارقة…. وصل الأمير إلى قلعة ذات شكل عجيب مريب، كأنها رؤوس أسُود وأنياب وحُوش من العهد القديم، تقشعر لها الأبدان وتفزع لمنظرها النفوس…. وجد أمامه كلبة ضخمة هجمت نحوه فرمى لها قطعة لحم ثم لاعبها بمرونة وليونة حتى هدأ من روعها فسكنت حركتها،، ثم بدأ الأمير يصيح منادياً الحسناء: لونجا أيتها الحسناء، هيا اخرجي،، لقد جئتك فارساً،، أبحث عن حقيقة الأسطورة التي سكنت قلبي فتحديت لأجلها الخطوب…. تظهر الحسناء من الأعالي كالشمس الساطعة في ظلمة الليل،، قائلة في دلال: -من أنت أيها الغريب،، وكيف دخلت إلى هنا،، (ثم أردفت ناصحة): -أخفض صوتك،، اصمت حتى لا يسمعك الآخرون.
يرد عليها متحدياً: -لن أخشى أحداً لأجلك، جئت راغباً في الزواج بك… أنا الشاب “زهار” من جزائر الأحلام… وهذا قلبي في كفي أهديه لك عربوناً… سعدت “لونجا” بقوله ورمت بضفائرها إلى الأرض ليستعين بها عند الصعود. -انبهر الأمير أمام طول شعرها الذي زادها سحراً، مسك به وصعد إلى غرفتها.. -عاد العملاق المتوحش والد “لونجا” تحسس المكان وأدرك أن أحداً دخل المنزل، اضطربت “لونجا” كثيراً لكنها وجدت مخرجاً لورطتها وقالت لأبيها: -إن عابر سبيل جائعاً، اقترب من الصخرة طالباً القوت كي لا يموت بالطوى، فقدمت له الخبز واللبن،، ثم انصرف لحاله، اطمأن العملاق المتوحش لقول ابنته وراح ينام في سبات عميق، لكنه من حين لآخر كان يفتح إحدى عينيه وهو ينقلب على أحد جانبيه…
-
- *
في الصباح الباكر،، هربت “لونجا” مع الأمير “زهار” على صهوة الجواد الذي جاء به الأمير وأثناء خروجهم من المنفذ تفطنت كلبة العملاق المتوحش الحميمة عند سماعها صهيل الحصان وأدركت أن “لونجا” غير موجودة بل رأتها تهرب مع الشاب، فأيقظت العملاق الذي فتش عن ابنته،، ناداها،، ولا مجيب،، نظر من النافذة فرآها مع شاب يمتطيان الجواد….
هرع نحوهم راكضاً والغضب يملأ أحشاءه وهو يُزمجر بأنيابه الموحشة وبأظافره الشرسة،، لقد اسودت الدنيا أمام عينيه،، ها هو يبحث عن الطريق عن المخرج الضيق،، كأنه غريب عن المكان،، حاول الخروج فأطبقت عليه الصخرة لسمنته وخشونة جسمه واضطرابه الشديد،،، صرخ صرخة مدوية ضجت لها الأسماع وردّدت صداها القمم والأوهاد،، التفت الهاربان خلفهما مندهشين فإذا بهما يشاهدان العملاق المتوحش يَلفظ أنفاسه في منظر بشع ومريع، والصخرة منكبة عليه،، فعادا نحوه حائرين،، كان يخاطبهما بوصايا ثلاث، بمعاناة كبيرة من شدة الموت البطيء الذي يفتك به: أوصيك “بلونجا” خيراً أيها الشاب الغريب قد تصادفك في طريقكما ثلاثة أشياء فاحذرا الاقتراب منها أولاها:
-رجلان يتنازعان، وثانيها محفظة مملوءة بالذهب، وثالثها نسران يقتتلان أمام النهر،، لا تباليا بأي منهما وإلاّ هلكتما… (وبعد إتمام وصيته سقط جثة هامدة…) -أدمعت عينا “لونجا” الجميلتان حرقة على وفاة أبيها لكن الأمير الحليم هدأ من روعها وحملها على جواده ثانية، فاحتضنته من الخلف وأطلق العنان لجواده يطوي المسافات طياً فيثير النقع خلفه كالزوبعة الترابية..
-
- *
في طريقهما الغابي على سفح الجبل وجدا كيساً من الذهب فتعففا عن حمله ثم شاهدا رجلين يقتتلان،، تذكر الأمير وصية “العملاق المتوحش” لكن بذرة الخير في نفسه جعلته لم يُطق صبرا،، فقفز بجواده نحوهما وأصلح بينهما ووزع كيس الذهب بينهما بالتساوي والتراضي، ثم واصل سيره وهو في طريقه رفقة الحسناء “لونجا” إلى أن شاهدا نسرين يقتتلان،، نسر ضخم يفتك بنسر دونه حجما، تحركت في جوانح الأمير المروءة وروح الإقدام ضد الظلم،، فتدخل بينهما يريد إنقاذ النسر المهيض الجناح،، لكن النسر الكبير انتهز الفرصة واختطف بمخالبه الأمير من ظهره وحلق به في الأجواء العالية تاركاً وراءه “لونجا” وجواده،، ومع الهلع تذكر الأمير وصية “العملاق المتوحش” لكن سحر السماء ومناظر الأرض البديعة أنسته حاله…. “لونجا” الفتاة اليتيمة،، الوحيدة بعد غياب فارس أحلامها تبكي ألماً من لوعة فراق أبيها العملاق وشريك حياتها الأمير “زهار”، تقول نائحة: -واحسرتاه.. تناديه.. لكن لا جدوى من صراخها ونحيبها
وحزنها… ركبت حصان الأمير لا تدري لها اتجاهاً.. لكن الحصان كان بغريزته يسير نحو قصر الملك،، ها هي مكسورة الخاطر،، لا رفيق سوى هذا الجواد الأدهم، وطيف الأمير يرافقها الدرب. بعد أيام وليال من السير وحيدة ها هي تقترب من القصر الفاخر،، متخفية في ثياب رثة،، حين دخلته طلبت من الحراس مساعدتها على البقاء والعمل كخادمة لدى الملكة….
كان لها ما أرادت،، وهي بذلك تريد قضاء حياتها قرب والدي “زهار” الأمير، أغلى شيء لديها في الوجود، لكنها وجدت أبويه حزينين لغيابه، فتضاعفت تعاستها، وصار ذلك القصر يسمى: قصر الأحزان….. كل يوم تجلس “لونجا” بجانب النافذة مهزوزة النفس تنتابها رعشات الوحدة القاسية،، تتذكر حبيبها الفارس.. تتساءل: -ترى إلى أين طار به النسر؟ وهل مازال حياً أم وافته المنية واختطفته هي الأخرى مني؟ يداعب الجدة “حجيلة” النعاس فتمسح بيديها أجفان عينيها الغائرتين ولما رأت الكرى يداعب أهداب الأطفال قالت: -هيّا للنوم يا أبنائي وغداً نكمل حكاية-لونجا الحسناء- يجلس الصبية متربعين بعد تمددهم، ويقولون بصوت واحد:
-أرجوك يا جدتنا العزيزة أكمليها لنا الليلة، لا تنامي حتى تقصيها علينا كاملة. لبّت الجدة طلب أحفادها وواصلت سرد هذه القصة الشيقة التي شدّت سمع الأطفال لها،،، قالت الجدة:
عندما كانت “لونجا” عند النافذة حائرة متسائلة في نفسها… أسئلة لم تعرف لها جواباً،، لمحت على حين غرة نسراً يجوب في الفناء فلوحت بيدها، محاولة إيقافه لكنه غاب عن الأنظار،، وبعد برهة من الزمن عاد إلى سماء القصر-إنه النسر المحقور- الذي تعارك مع النسر الضخم- يحلّق أمامها في حركات تعبيرية كأنه يريد تبليغها رسالة….
قفزت “لونجا” وهي تلوح بيدها يميناً ويساراً، والنسر يواصل حركاته بجناحيه الطويلتين،، خرجت “لونجا” من القصر وتبعت النسر في اتجاهه، متخذة إياه دليلاً. قطعت أراضي البساتين والحقول ثم السهول وبلاد القفار، وعلى رأس هضبة نزال النسر وأخذ ينظر صوب شجرة عظيمة،،، توقفت “لونجا” والعرق يتصبب من جبينها،، لقد أنهكها التعب لكن الأمل في لقاء فارسها المفقود أعطاها قوة إضافية تحملت بطاقتها المصاعب. اقتربت من الشجرة الكبيرة… فسمعت أنيناً خافتاً،، خفق لـه قلبها،،، إنه الأمير “زهار” ها هو ينادي،،،، أسرعت نحو الشجرة،، لكن النسر العملاق كان أسرع منها،، حيث حمل الأمير وحلّق في السماء،، فصارت الفتاة الحزينة تلوح بيدها مرة أخرى، صارخة في وجه الدنيا،، سمعها الأمير فحاول أن يجيبها بأنفاس متقطعة، وقد أنهكه التعب:
-عليك بذبح خروف سمين وتركه عند النهر، عندما يراه النسر سيأكله فيشبع ويقع طريح الأرض حيث لا يقوى على الطيران،،، وقتها عليك بضربة بعصا غليظة على رأسه فأنجو من قبضته..
-قامت “لونجا” بتنفيذ وصية الأمير المأسور عند النسر الخاطف، فتحقق ما قاله، وأنقذته “لونجا” من قبضة الطائر الجارح، ولكن المسكين مرض مرضاً شديداً أقعده طريح الأرض… لأنه لم يستطع السير على قدميه للعودة إلى القصر وسهرت “لونجا” بجانبه طوال مرضه تخفف حرارة جسمه وتناجيه باسم الشوق وما جرى لها في غيابه… صار “زهار” طريح الفراش الذي صنعته له من أوراق الشجر وحزم الحشيش كانت تداعبه بأناملها،، تخفف عنه الآلام،، ينظر إليها مرات ومرات،، نظراته تكلمها تخاطبها بلغة العيون تستقبلها “لونجا” يتحسسها بأنامله،، يسعد بوجودها، رغم كل شيء هي بجانبه…
-
- *
مرت الأيام فبدا الأمير “زهار” شاحب الطلعة،، يمتثل للشفاء،، وكان علاجه الوحيد امتصاص رحيق الأشجار وحب الزيتون الممزوج بنظرات الحب والحنان من فتاته “لونجا”… كان الملك وزوجته يعيشان في كآبة قاتلة وحزن عميق لفراق ابنهما الأمير الذي انقطعت كل أخباره،، حتى أخذ الحزن موضعه في قلبيهما،، وصار القصر كالكهف المهجور، لقد غابت عنه الضحكات والسهرات الليلية والجلسات الممتعة حول الموائد المليئة بأشهى المأكولات…. وأهله في أثواب من أفخر الملابس يرفلون ويتبادلون البسمات والطرائف….
عادت الحسناء ومعها الأمير الشاب “زهار” الذي دخل المدينة في ثوب متنكر حتى لا يعرفه أحد وفي اليوم الموالي لعودتهما، طلبت الخادمة الحسناء “لونجا” مقابلة الملك وهي في أثوابها الرثة،، الممزقة،، فلم يسمح لها الحرس بمقابلته وهي على هذا الحال، فأحدثت صوتاً مستجدياً وصل مسمع الملك، فأستفسر عن الخبر، قال له حاجبه الحقيقة،، فأذن لها، دخلت عليه بهندامها الممزق، تعجب الملك لحالها ولكن جمالها الفاتن أنساه نظرته المستصغرة لها، سألها: -ما وراءك أيتها الخادمة؟
-مولاي منذ أن وطئت قدماي هذا القصر لم أر البسمة على شفاهكم أو السرور على ملامح وجوهكم،، نفوسكم حائرة،، صامتة،، نظراتكم بائسة،، جامدة كالجدران تنتظر بشرى سعيدة،،، استغرب الملك قولها لكن لم يقاطع كلامها… استطردت “لونجا” في قولها… اسمح لي بالخروج وسأعود إليك في الحين،، سأرفع بعد قليل ستار الحزن عن القصر وأمسح الدموع من نوافذه،،،
-أومأ برأسه موافقاً على طلبها……..؟ -خرجت “لونجا الخادمة” أمام الباب وطلبت من الضيف الدخول إلى الملك وزوجته الحزينين،، كانت أصابع يديهما متشابكة وهما يدخلان،، فاحتار الحرس منبهرين… الملك وزوجته تغمرهما الفرحة للقاء ابنهما الغريب الحبيب، الذي طالت غيبته أمامهم، حتى يئسوا من عودته،، وفي غمرة فرحتهم الكبرى انصرفت “لونجا الخادمة” إلى خارج مجلس الملك…
غيّرت ملابسها الرثة بأخرى جديدة ثم سرحت شعرها الذهبي،، فتحولت “لونجا” بسحرها وفتنتها صاحبة الجمال الأسطوري إلى ما كانت عليه روعة وبهاء… والفرحة تملأ قلوب العائلة يطلب الأمير “زهار” من الملك قائلاً: -أبتاه اليوم وبمناسبة رجوعي تتوالى المفاجآت… هل يطيب لكم استقبالها؟ يسعدني أن أقدم لك عروسي المختارة،، التي غبت لأجلها،، وها أنا بينكم اليوم، فما تقولون؟ نادى الأمير “لونجا” فدخلت عليهم في الحين انبهر الملك وزوجته لجمالها الساحر ومحياها المشرق…. وبعد التشاور وافقا على زواجها من ابنهما وأقيمت الأفراح في البلدة احتفاءً بزواج الأمير وسعد الأهالي بعودته بعد إقدامه على مواجهة الأهوال وتحديه الشجاع للمهالك،، وباءت الخطة الجهنمية للعجوز “الماكرة” المدبرة للمكيدة مع شقيق الملك شقران بالفشل وكان جزاؤهما خيبة الأمل التي قتلتهما حسرة وندماً على ما فعلا…
عاش القصر الأفراح والليالي الملاح محتضناً “الأمير ولونجا” في سعادة وهناء. وتمت الحكاية فتتثاءب الجدة “حجيلة” وترمي برأسها على الوسادة البنية المرقومة بالغزل الأبيض والأسود ويداها المتشققتان شاهدتان على نشاطها المهني…. ثم تقول: -هكذا يا أبنائي تنتهي حكاية “لونجا الحسناء” بانتصار الحب على البغض، والخير على الشر،، كان بعض الأطفال قد استسلموا للنعاس فناموا قبل أن تنهي جدتهم القصة، وكان من بين المستيقظين الطفل الذكي “رؤوف” نظر صوب الجدة “حجيلة” قائلاً في جرأة عجيبة:
-هل صحيح يا جدتي في الدنيا أغوال موجودة؟ احتارت الجدة لهذا السؤال المفاجئ وبعد تفكير قصير،، قررت الجدة اطلاع الصغار على الحقيقة فأجابت قائلة: -الحقيقة يا أطفال.. الغول اسم لحيوان وهمي لا وجود لـه على وجه الأرض، ونحن الكبار نخيف به الأطفال الصغار كي يهدأوا، فنتجنب بذلك صراخهم وطلباتهم المتكررة،، فتناول رؤوف كراسه القاموسي وقلمه وكتب: الخير يتفوق على الشر ثم أضاف: الغول: حيوان وهمي لا وجود له.