الحريّة
تُصنَّفُ الحرية على أنّها أولى المطالب الإنسانيّة التي بدأت مع الإنسان منذ وجوده؛ فهي تُعتبرُ من الخصائص والسِّمات المهمّة التي لا يستغني الإنسانُ عنها بصفته إنساناً، إذ إنّها تساعده على تحقيق حاجاته دون قيد أو إجبار، ولشدّة أهميّتها تحدّث عنها مُختلف الأدباء، والشُّعراء، وضحّى الكثيرُ لنيلها. وإنّ الإنسانَ إذ يولدُ فإنّه يأتي إلى الدُّنيا لا تشوبه شائبة من تلك القيود التي لا تمنحه حياةً كريمة، بلْ يكونُ حُرّاً متمتعاً بالعقلِ والفطرة السّليمة التي توجّهه في النهاية للحقّ إن أراد، وتُبيّن له قيمة الحريّة وأهميّتها. فما هو مفهوم الحرية؟ وما أهميّتها؟ هذا ما سيتناوله المقال.
مفهوم الحريّة
يُعدّ مفهوم الحُريّة مفهوماً لا يستقرّ على كلماتٍ مُحدّدة أو فلسفةٍ مُعيّنة بل هو مختلفٌ ما اختلَف الزّمان والمَكان؛ ولهذا وُجدت الكثير من التّعاريف التي تصفه، منها ذلك التّعريف الذي جاء في إعلان حقوق الإنسان الذي رأى النّور عام 1789م، فقد عرّف الحريّة بأنّها: (حقُّ الفرد في أن يفعل كلّ ما لا يضرُّ بالآخرين).
كما أنّ الحريّة ككلمة تَعني أن يقومَ الإنسانُ بإرادته المحضة باختيار ما يُريد وباتّخاذ قراراته، سواءً كانت هذه القرارات تتعلّق بالجوانب المعنويّة أو الماديّة، دون أن يكون مُجبراً أو مُكرهاً على الأمر من شخصٍ أو طرفٍ آخر.
ويُمكن تعريفُ الحريّة كمفهوم بأنّها تمتّع الفردِ بمنظومةٍ شاملةٍ مُتكاملة تُنظّم حُريّته الشخصية ولا تُقيّدها، دون إضرارٍ بحُريّات الآخرين؛ فلكُلّ فردٍ حُريّته الخاصّة ما لم يتجاوزها بالتّعدِّي على حُريّة أفرادٍ غيره، ولأجلِ ذلك قيل إنّ حُريّة المرء تنتهي عند بدء حُريّة الآخرين، فهو في هذا العالم لا يعيشُ وحده ليتمتّع بحريّة مطلقة لا تحتكمُ لشيء، إنّما يعيشُ بالتّشارك مع الكثير من النّاس الذين لهم حقٌّ في الحرية أيضاً، وقد نصّت الكتبُ السّماوية، والأديان، والأنظمة، والدساتير الدّولية على هذا الحقّ وحثّت على السّعي لمنحه لكلّ البشر.
إقرأ أيضا:لولا اشتعال النار فيما جاورتوقد تطرّق المُفكّر المصريّ أحمد لُطفي السّيّد لمفهومِ الحريّة فوصفَها بقوله: (الحرية غرضُ الإنسان في الحياة، كانت ولا تزال هواهُ الذي طالما قدَّم له القرابين، وأنفق فى سبيله أعز شيء عليه، ولئن وصفنا ما وصفنا من شوق الإنسان إلى الحرية، فلا نبلغ من إثباته ما بلغته الحوادث الحِسّية التي تقع من الأفراد والأمم، دالّة على أنّ الحُريّة هي الحياة، بل أعزُّ من الحياة).
الحريّة في الإسلام
أرست الشّريعة الإسلاميّة مبادئ الحُريّة، وقد عدّتها من الضّروريات التي لا يقوم المُجتمعُ الإسلاميّ إلا بها، فعلى المُسلم أن يتلمّس حُريّته في نفسه وفي مُجتمعه حوله؛ إذ إنّ حُريّته وحُريّة مجتمعه أمران متلازمان لا انفكاك بينهما؛ فالمُجتمعُ الذي يرضخَ لسيطرة أو تدخِّل أجنبيّ مثلاً لن تكون إرادة أفراده خالصةً لهم. ولقد جاءَ الإسلامُ لتطبيقِ الحُريّة في الأرضِ ولتدعيم كرامة الإنسانِ والحضّ عليها. كما أنّ الأصلَ في الإنسانِ الحُريّة كما في الأشياءِ الإباحة، ولهذا قرّرت الشريعة الإسلاميّة أنّ الناس جميعاً أحرارٌ دون أيّ استثناءٍ، فالحُريّة هي التي توافق الطبيعة والرقّ والعبودية هو الطّارئ.
الحُريّة في القرآن الكريم
وَردت الحُريّة في القرآن الكريم بعدّة ألفاظ مُشتّقة منها، وفيما يأتي بعضُ المواضع التي ذُكرت فيها:
- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ).
- قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ). فقد عدّ الإسلامُ هُنا أنّ الحريّة هي الحياة، فجعلَ في تشريعه عتقُ الرّقبة أي إحيائها كفّارة لجريمة القتل الخطأ.
- قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)؛ حيث قرّر الإسلامُ قيمة الحُريّة أيضاً في اختيار الدِّين
- قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، حيثُ تركَ الله للإنسانِ حرية تحديد دينه، وأعطاه الإرادة الكاملة في اختيار عقيدته وإيمانه دون إكراهٍ أو إجبار، فهو وحده من يحملُ مسؤوليّة هذا القرار، وبهذا أقام عليه الحُجّة التي سيحاسبه عليها يوم القيامة بالعدل.
- قوله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)
الحُريّة في زمن الصّحابة
ظَهر مفهومُ الحُريّة وتطبيقه بشكلٍ لافتٍ في زمن النّبوة ومن بعده زمن الصّحابة والخلفاء الراشدين، وقد حصلتِ الكثيرُ من المواقف الدّالة على أهميّة تطبيق الحريّة وقيمتها، ومنها ذلك الموقف الذي جرى بين الصحابيّ عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في زمنِ ولايته على مصرَ أيّام خلافة عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-، فقد شاركَ ابن الوالي عمرو بن العاص في سباقٍ للخيول، وشاركه في ذلك غلامٌ قبطيّ من غلمان مصر، وحينَ فاز القبطيُّ على ابن عمرو بن العاص، قام الثاني بضربه لعلمه أنّه لا قُدرة للقبطي في الانتقام من ابن الوالي مستنداً على سلطانِ أبيه.
إقرأ أيضا:مقالة عن الوطنإلّا أنّ والدَ الغُلام القبطيّ سافر للمدينة المنورة برفقة ابنه، شاكياً لأمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ما حصل، فكتَب عمر بن الخطّاب لعمرو بن العاصِ بأنْ يأتِ هو وابنه للمدينة، ولمّا حضرا أعطى أميرُ المؤمنين الغلام القبطيّ سوطاً ليأخذ حقّه ممن ضربه، فضربه حتّى شفا ما في نفسه واقتصّ منه، وحينها قال عمر بن الخطّاب عبارته الخالدة لعمرو بن العاص: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟).