تعريف بشِعر الزُّهْد
يعرّف الزُّهْد لُغةً بأنّه القدر اليسير من الشيء، وزهِد عن الشّيء أو زهِد في الشّيء: أي أعرض عنه وتركه خوفاً من العقاب والحساب؛ تحرُّجاً منه أو احتقاراً له، والزّاهد: هو العابد، والرّاغب عن الدُّنيا، والمُنصرِف إلى الآخرة، فلا يفرح إن ملك الدُّنيا ولا يحزن على عدم امتلاكها، أمّا الزُّهْد اصطلاحاً: فهو الابتعاد عن المعصية، وعمّا يُبعد المرء عن الله، ممّا هو زائد عن الحاجة، أو هو الإعراض عن أمور الدُّنيا كافّة، وذلك بتطهير القلب، وهو مُصطلح أشمل من الورع والقناعة، والزُّهد يتضمّن المعنى الروحيّ والماديّ والأخلاقيّ؛ لقوّة الرّابطة بينهم، فلا يزهد المرء في أمور دُنياه مع مُمارسته لما حرّمه الله، فلا معنى للزُّهد بلا اجتماع الفِكر والرّوح.
يُعدُّ شِّعر الزُّهد من الألوان الأدبيّة التي تحمل معانٍ سامية للرّوح على عكس بعض الأشعار الأخرى، حيث يتناول الحياة الدُّنيا باعتبارها داراً زائلةً مع الابتعاد عن ملذّاتها، ويُوجّه النّاس نحو الحياة الأبديّة باتّباع المناسك والعبادات، وقد تحدّث ابن خلدون عنه في مُقدّمته، فقال: “فلمّا فشا الإقبال على الدُّنيا في القرن الثّاني وما بعده، وجَنَح النّاس إلى مخالطة الدُّنيا، اختصّ المُقبِلون على العبادة باسم الصُّوفيّة والمُتصوّفة”، ويُشير كذلك أنّ هذه الجماعة اختصّت لنفسها هذا النّوع الأدبيّ من الشِّعر مبتعدين بذلك عن الأشعار التي يُقبِل عليها عوام النّاس، وما تتّسم به من بذخٍ ومالٍ، ومناصبٍ، ومُنصرفين عن الخَلْق بعبادة الخالق.
إقرأ أيضا:مقالة فلسفية حول الذاكرة والخيالمراحل تطوّر شِعر الزُّهْد
مرّ الزّهد بمراحل انتقاليّة ساهمت في نشأة التّصوف الذي سعى فيه شعُراؤه إلى الوُصول إلى الله، والاهتمام بالتّعرُّف على أسرار تتعلّق بالخالق، وإيجاد وسيلةٍ مناسبةٍ للمناجاة الإلهية، والتي تُشبه أشعار الغزل الإلهيّ للحلّاج، وفي النقاط الآتية توضيحٌ للمراحل الانتقاليّة التي مهّدت لتطوّر شِعر الزّهد:
العصر الجاهليّ
يمكن تقسيم العصر الجاهليّ بحسب تطوّر شعر الزهد على مراحل كالآتي:
- بداية العصر الجاهليّ: كان الشِّعر في هذه المدّة يأتي إمّا على شكل أبيات فرديّة ضمن قصيدةٍ تختصّ بموضوعٍ ما، أو أن يكون شعراً مُتفرِّقاً على هيئة عِبَرٍ وحِكَمٍ، ناتجة من عُمق التّأمُلّات والتّجارب، والتي غالباً ما كانت تتناول الحديث عن الموت وعمّا يحدث بعده.
- أواخر العصر الجاهليّ: بدأت في هذه المرحلة علامات التّغير العقديّ، بظهور دينٍ جديدٍ في شبه الجزيرة العربيّة، ويظهر ذلك جلِّياً في بعض قصائد شُعراء تلك المدّة، والتي كانت تحمل معانٍ قريبة من المعاني المتعلّقة بالدِّين الإسلاميّ، حيث ظهر ما يسمى بشعراء التعبد، مثل عدي بن زيد، والذي اشتُهر بشعر الموعظة والتذكير، بالإضافة إلى شعراء المتحنّفين، وهم الذي بقوا على دين سيدنا إبراهيم، ومنهم: إبراهيم المأمور الحارثيّ، وأكثم بن صيفيّ، وزيد بن عمر بن نُفيل، وورقة بن نوفل، وأبو القيس الرّاهب، وأميّة بن الصّلت.
العصر الإسلاميّ
تُعرّف فترة العصر الإسلامي بأنّها الفترة التي بدأت من عهد الرسول محمد عليه السلام وامتدّت حتى خلافة عثمان بن عفان، وقد تميّز الشعر في بدايته بمحدوديته، إلا أنّه وبعد فترةٍ من الوقت ظهرت العديد من الأشعار التي تُدافع عن الإسلام وتسعى لنشره، وتدعو إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر، وتذكّر بالجزاء عقاباً وثواباً، إضافةً إلى الأشعار التي اختصت بالمدح النبويّ، ومن شُعراء المديح حينها: النّابغة الجعديّ، وكعب بن زُهير، وحسّان بن ثابت، وبعد ظهور العديد من الفتن، أصبح النّاس ينصرِفون إلى العبادة، وتركها لله، فوجد الزّاهدون أنفسهم يلجأون إلى القرآن الكريم، والسُّنّة النّبويّة؛ هُروباً من القضايا السّياسيّة العامّة التي تحمل صراعاً مذهبيّاً وفساداً أخلاقيّاً؛ لذلك سعى الذين يدعون إلى الله إلى تعليم النّاس وتذكيرهم بأهميّة تطبيق الشّريعة الإسلاميّة.
إقرأ أيضا:موضوع تعبير عن أهمية نهر النيل وواجبنا نحوهالعصر العبّاسيّ
تطوّر شِعر الزُّهد في هذه المرحلة؛ حيث ظهر الكثير من الشعراء الذين عَمَدوا إلى ترك الدُّنيا، والتّفرُّغ للعبادة؛ وذلك كردّة فعل على حركة الزّندقة التي شاعت بين النّاس حينها، ويجدر بالذِّكر أنّ الشُعراء تفرّغوا بشكل كامل للزُّهد، فلم يتطرّقوا إلى شيء غيره، وأدخلوا فيه الفلسفة والحكمة، الأمر الذي مَهّد لظهور شِعر التّصوف لاحقًا، ومن شُعراء هذا العصر أبو العتاهيّة الذي يُصوّر الآخرة، وما يحدث فيها من أهوال، بالإضافة إلى أبيات تحمل العظة، وتُعنَى بتقلُّبات الأزمان، وأبو نوّاس أيضاً، والذي عُرف بشِعر المُجون، إلا أنّه في آخر حياته تاب إلى الله، وظهر ذلك واضحاً في أشعاره، فكانت أشعاره تحمل زهداً نقيّاً خالصاً.
عوامل ظهور شِعر الزُّهْد
إنّ أول ظهور لشِعر الزُّهد بحسب ما يقول الدّكتور إحسان عبّاس في كتابه تاريخ الأدب الأندلُسيّ كان أثناء الثّورة على الحُكم الرّبضيّ عام 206هـ، وكان الشِّعر حينها يُنظَم من قِبل الأتقياء من الشُّعراء، ويُشيرُ الدّكتور إحسان إلى أنّهم كانوا يُضيفون إلى أشعارهم شيئاً من المُفردات التي تُدين أنظمة الحُكم وقتها، واستدلّ الدكتور في كلامه إلى ما قاله المراكشيّ عند تناوله موقف الزُّهاد من النّظام الرّبضيّ للحُكم، وبعد ظهور شِعر الزُّهد في القرن الثّاني، وتطوّره في مراحل لاحقة؛ نتيجة مجموعةٍ من العوامل التي تتعلّق بالجوانب السّياسيّة، والاجتماعيّة، والثّقافيّة، برز شُعراء الزُّهد، ويظهر هذا في تسلسُل مواضيع الأشعار بحسب العامل المؤثر فيها، فكانت الأشعار بدايةً تتناول الحديث عن النّفس البشريّة، والحياة، والحُكّام، وتقّلب الأحوال، ثمّ انتقلت إلى جانب الموعظة إلى أمور الدُّنيا، والحثّ على العبادة، وطاعة الله، وفيما يأتي أهمّ العوامل المؤثّرة في ظهور الزُّهد:
إقرأ أيضا:كيف أكتب مقالاً عن نفسيالعامل الاجتماعيّ
إنّ لهذا العامل أشكالاً وأصنافاً من السّلوكيات التي ترتبط به، ومنها: الانشغال بأمور الحياة، والبذخ خاصّةً في الطّبقات الحاكمة، وظهور الّلهو في المجالس، والشّراب، وانتشار السّرقات، والفساد في البيوع، وغيرها من الأمور التي شهدها العصر العباسيّ، والتي ساهمت بدورها في ظهور مجموعةٍ جعلوا لأنفُسهم قراراً خاصّاً تجاهها، فنبذوا كلّ الغايات الدُّنيويّة، وطالبوا بالعودة إلى الالتزام بالدِّين، والقيم الإسلاميّة العُليا، بالإضافة إلى اتّباع نهج الرّسول -صلى الله عليه وسلّم-، والصّحابة -رضوان الله عليهم-.
العامل الثّقافيّ
يتمثّل العامل الثقافيّ باختلاط العرب المُسلمين بعد القرنين الثّاني والثّالث في الحياة الفكريّة والثّقافيّة للدوّل المُختلفة مع الاطّلاع على ثقافتهم، مثل: اليونانيّة، والفارسيّة، والهنديّة، بالإضافة إلى ظهور حركات التّحرّر والفتوحات، والتّرجمة، ودخول المُسلمين في مراحل تُعنى بالأبحاث والعلوم، وبسبب انحياز كلّ ثقافةٍ إلى رأيها نشأت الفلسفة، ما أدى إلى ظهور حالة من الاندماج بين الفلسفات الغربيّة والعربيّة وحضاراتهم، ممّا مهّد طريقاً للزُّهاّد ليستفيدوا من هذه الحركة الفِكرية والثّقافيّة؛ لتكون زاداً لهم في كتابة أشعارهم الرّوحيّة المليئة بالعِبرة والموعِظة.
العامل الذّاتي
يعتمد هذا العامل على اتّخاد العزلة سبيلاً للابتعاد عن كلّ ما هو محظورٌ أو حرامٌ؛ حِفاظاً على أنفسهم وتحلِّياً بالعِفة، فذهب منهم إلى مناطق خالية؛ خشية ارتكاب المعاصي، إلا أنّ ذلك لم يمنعهم من ممارسة أعمالهم، أو أن يخرجوا للجهاد إذا تطلّب ذلك، ومن الأسباب التي جعلتهم يتّخذون هذا نهجاً لهم: الخوف ممّا ذُكِر في القرآن الكريم عن اليوم الآخر وعذاب جهنّم، والشّعور بالحُزن والهمّ بعد ارتكاب المعاصي، ليقضوا حياتهم في التّوبة والاستغفار.
خصائص شِعر الزُّهْد
يمتلك شعر الزّهد العديد من الخصائص التي تعكس مواضيعه وجمالياته العامة، ومن أهمّ ما يميز أتباع هذا المنهج التزامهم بمنهج دينيّ مستقيم، رافضين الدنيا وشهواتها، ويذكر من خصائص شعر الزهد ما يأتي:
- يغلب على شعر الزهد الطابع التعليمي، حيث يقصد أنصار هذا النوع من الشعر النصح والإرشاد، وبذلك يقول البهلول في عهد الخليفة الرّشيد:
دعِ الحِرص على الدّنيا
-
-
-
-
- وفي العيش فلا تطمعْ
-
-
-
ولا تجمعْ مِنَ المال
-
-
-
-
- فلا تدري لِمن تجمعْ
-
-
-
- الإكثار من ذِكر الموت؛ لكونه آخر ما سيَؤول إليه المرء، وأنّ لا قدرة للإنسان على ردّه، حيث يقول أبو العتاهية في ذلك:
أَنْســاكَ مَحْياكَ المماتا
-
-
-
-
- فَطَلَبْتَ في الدُّنيا الثَّباتا
-
-
-
وَثِقْـتَ بالدُّنيا وأَنْــ
-
-
-
-
- تَ تَرى جَماعَتَها شَتاتَا
-
-
-
هَـلْ فِيهما لكَ عِبْـرةٌ
-
-
-
-
- أَمْ خِلْتَ أنَّ لكَ انْفِلاتا
-
-
-
يا من رأى أبَوَيهِ فيـ
-
-
-
-
- ما قَد رأى كانا فماتا
-
-
-
- سهولة المُفردات، وبساطة الأسلوب، وهذه الخاصيّة جعلت من شِعر الزُّهد يُشبه إلى حدٍّ ما الكتابة النّثريّة أو الخُطبة الواعظة، ويظهر ذلك واضحاً في أشعار أبي نوّاس، وأبي العتاهيّة، الذي كان يرى أنّ شِعر الزُّهد يجب أن يكون بألفاظ سهلة؛ لأنّه موجّه لعامّة النّاس، فقال في الزّهد إنّه: “ليس من مذاهب الملوك ولا مِن مذاهب هُواة الشِّعر ولا طُلّاب الغريب”، ومِن قِصصه أنّه مرّة لقيه مَسلمة بن الوليد، فنَقد شِعره، متبعاً ذلك بأبيات يقصد فيها الإشارة إلى بساطة مُفردات شِعر أبي العتاهية، وهذه هي:
الحمد و النعمة لك
-
-
-
-
- والملك ال شريك لك
-
- لبيك إنك الملك
-
-
ثمّ ذكر مَسلمة بعد ذلك أنّه لو فعل وكتب بأسلوب أبي العتاهية لكتب عشرة آلف بيت، ثمّ أتبعَ قوله بأبيات مليئة بالمُفردات الصّعبة، وهي:
موفٍ على مُهجٍ في يوم ذي رَهَجٍ
-
-
-
-
- كأنّهُ أَجَلٌ يسعى إلى أملِ
-
-
-
إلّا أنّ أبي العتاهية ردّ عليه قائلاً: ” قل مثل قولي، أقل مثل قولك”.
- التأثّر بالقُرآن الكريم، وأساليبه، ومِثال ذلك أبيات أبي العتاهية التي تأثّر فيها بالآية الكريمة: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) وفيما يلي الأبيات:
يا عجباً كُلُّنا يَحيد عن الحنين
-
-
-
-
- وكلٌّ لحنينه لاقي
-
-
-
كأنّ حيّاً قد قام نادِبُه
-
-
-
-
- والتّفّت السّاق منها بالسّاق
-
-
-
- كثرة الأبيات في القصيدة أحياناً، ويشتهر أبو العتاهية في ذلك، خاصّة بعد نظمه قصيدة “بذات الأمثال” المكوّنة من أربعة آلاف بيت، وتتميّز هذه القصيدة بوحدة القافية في صدر أبيات القصيدة فقط، ومن أبياتها:
حسبُك ما تبتغيه القُوت
-
-
-
-
- ما أكثر القُوت لِمن يموت
-
-
-
الفقر فيما جاوز الكِفافا
-
-
-
-
- من اتّقى الله رَجا وخافا
-
-
-
- الحفاظ على وِحدة البنية للقصيدة؛ لتكون على أساس غرض الزُّهد من أول القصيدة إلى آخرها.
- استخدام الأوزان الشِّعريّة القصيرة، والمجزؤة في بحور الشِّعر؛ للتناسب مع أهداف الزُّهد، فمثلاً عمد أبو العتاهية إلى استخدام وزن مجزوء بحور الكامل، والوافر، والبسيط، والرّمل، كذلك الشّاعران أبو نوّاس وابن المبارك.
- استخدام الصُّور الفنيّة البسيطة، والتي تُناسب غرض شِعر الزُّهد، وفي الوقت نفسه تكون ذات طابع مُبتكر يجعل السّامع لها يندمج معها.
- المُباشرة في التّعبير مع الابتعاد عن الصُّور، والمجازات، وهذه الخصيصة جعلت النّاس يقبلون على شِعر الزُّهد؛ فالمعنى يتمّ إيراده بلا غُموض أو تعقيد.
أمثلة على شِعر الزُّهْد
فيما يلي بعض الأمثلة والمواقف التي استدعت شعراء الزهد قول بعض الأبيات:
- توجيه النّاس إلى الزُّهد في أمور الدُّنيا الزّائلة وملذّاتها. والتّأكيد على أنّها ليست دار قرار، مِثل قول أبي العتاهية:
إنّما الدُّنيا غُرور كُلُّها
-
-
-
-
- مِثل لمع الآل في الأرض القِفار
-
-
-
- الدّعوة إلى التّوبة والاستغفار، ويظهر ذلك فيمن عاشوا جزءاً من حياتهم في المُجون، وأشهرهم أبو نوّاس، وممّا قاله بعد توبته:
أدعوك ربّي كما أمرت تضرُّعاً
-
-
-
-
- فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟
-
-
-
- إرشاد النّاس، وتقديم الموعظة لهم؛ للابتعاد عن الدُّنيا وحوائجها، ويكون ذلك بقِصص القُرآن والسُّنّة النّبويّة، مع سِير الصّحابة والتّابعين، كقول ابن المُبارك:
الصّمت أزين بالفتى
-
-
-
-
- من منطق في غير حينه
-
-
-
والصّدق أجمل بالفتى
-
-
-
-
- في القول عندي من يمينه
-
-
-
- الاستعانة بالله، والرِّضا بتقسيمه أقدار العِباد، كقول ابن المُبارك:
أرى أُناساً بأدنى الدّين قد قنعوا
-
-
-
-
- ولا أراهم رضوا بالعيش بالدُّونِ
-
-
-
- التحذير والتّنبيه من الموت والآخرة، كقول عمرو بن المغيرة:
هبْ أنّك قد ملكت الأرض طرّاً
-
-
-
-
- ودان لك البلادُ فكان ماذا
-
-
-
أليس غداً مصيرك جوف تربٍ
-
-
-
-
- ويحثتو الترب هذا ثمّ هذا
-
-
-
- التّطرُّق للحديث عن الجّنة والنّار، كما قال الورّاق:
يا غافلاً ترنو بعيني راقد
-
-
-
-
- ومشاهداً للأمرغير مشاهد
-
-
-
تصل الذنوب الى الذنوب وترتجي
-
-
-
-
- درك الجنان بها وفوز العابد
-
-
-
- حثّ النّاس على الصّبر في أمور الدُّنيا، وما يُرافقها من قِلّة الرِّزق، كقولهم:
ولو قدّم أحزم في أمره
-
-
-
-
- لعلّمه الصّبر عند البلا
-
-
-
أبرز شُعراء الزُّهْد
ينقسم شُعراء الزُّهْد إلى قسمين، وذلك بحسب تطرُّق الزُّهد إلى حياتهم، وهما: الشُّعراء الزّاهدون منذ نشأتهم، مثل: عبد الله بن المبارك، ومحمّد بن كناسه، ومحمود الورّاق، والإمام الشّافعي، والخليل بن أحمد، والقسم الثاني فهم الشُّعراء الزّاهدون التّائبون بعد المُجون، يُذكر منهم: أبو العتاهية، وأدام بن عبد العزيز، وأبو نوّاس، ومحمّد بن يسير الرّياشيّ.
رابعة العَدويّة
هي أكثر الشّاعرات الزّاهدات شُهرةً، وتتميّز برِقة مشاعر الحُبّ الإلهيّ، وعُذوبة ألفاظه الذي تنقله إلى أشعارها، فتصف الخالق بأنّه حبيبُها مع دوام مُناجاتها له، وأنّ خاطرها مشغول به دائماً، كما أنّه الوحيد الذي يعلم بما في قلبها، وتؤكّد رابعة من خلال شِعرها أنّ قلبها مُتعلّق بالذّات الإلهيّة، وكان هذا نهجُها في الزُّهد، فهي تتعمّق في محبّة الخالق محبّة ينشأ معها اتّصال روحيّ بالله، فهي وإن جلست في حضرة النّاس، بقي قلبُها مع الله، وقد مهدت رابعة للتجديد في الشعر الصوفيّ، ومن أشعارها:
أحبّكَ حُبّيْن حُبَّ الهَوى
-
-
-
-
- وحُبّاً لأنّكَ أهل لِذَاكا
-
-
-
فأمّا الذي هو حُبُّ الهَوى
-
-
-
-
- فَشُغْلِي بذكركَ عَمَّنْ سِواكا
-
-
-
وأمّا الذي أنتَ أهل له
-
-
-
-
- فَكشفُك للحُجب حتّى أراكا
-
-
-
فلا الحمدُ في ذا وذاكَ لي
-
-
-
-
- ولكنْ لكَ الحمدُ في ذا وذاكا
-
-
-
أبو العتاهية
هو من الشُّعراء الذين تحوّلوا من شِعر الغزل إلى شِعر الزُّهد والتّصوّف؛ لأسباب اجتماعيّة، وشخصيّة، ويذكر أبو سلمة الغنوي أنّه سأل أبو العتاهية عن سبب تحوّله إلى الزُّهد، فأخبره أنّه عندما قال أبياتاً في الغزل، حلُم حُلُماً أشعره أنّ ما يقوم به معصية للخالق، وتاب من حينها عن قول الغزل، وكانت أبياتهُ تلك:
الله بيني وبين ومولاتي
-
-
-
-
- أبدت لي الصّد والملامات
-
-
-
منحتها مُهجتي وخالصتي
-
-
-
-
- فكان هجرانها مُكافآتي
-
-
-
هيمنها حُبّها وصيّرني
-
-
-
-
- أُحدوثة في جميع جاراتي
-
-
-
نظم أبو العتاهية في الزُّهد قصيدة طّويلة يكشف فيها تجربة الحبّ التي مرّ بها، وكيف كانت سبباً في تغيُّره، وتظهر فيها فلسفته في الحياة بعد الذي ذاقه منها، ويتضّح جليّاً العزم في كلامه، والمشاعر الصّادقة، وممّا قال فيها:
قطعت منك حبائل الأمالِ
-
-
-
-
- وحططت عن ظهر المطيِّ رحالي
-
-
-
و يئست أن أُبقي لشيء نلت ممّا
-
-
-
-
- فيكِ يا دنيا و أن يبقى لي
-
-
-
فوجدت برد اليأس بين جوانحي
-
-
-
-
- وأرحت من حَلِّي و من ترحالي
-
-
-
ولئن يئست لرُبّ بَرْقةِ خُلَّبٍ
-
-
-
-
- بَرَقَتْ لذي طمع و بَرْقة آل
-
-
-
ما كان أشأم، إذ رجاؤك قاتلي
-
-
-
-
- وبنات وعدك يعتلجن ببالي
-
-
-
فالآن يا دنيا عرفتك فاذهبي
-
-
-
-
- يا دار كلّ تشتت وزوالِ
-
-
-
والآن صار لي الزمان مؤدباً
-
-
-
-
- فغدا عليّ وراح بالأمثالِ
-
-
-
والآن أبصرت السّبيل إلى الهدى
-
-
-
-
- وتفرغت همّمي عن الأشغال
-
-
-
ولقد أقام لي المشيب نعاته
-
-
-
-
- يُفضي إليّ بمفرق وقذالِ
-
-
-
ولقد رأيت الموت يبرق سيفه
-
-
-
-
- بيد المنيّة حيث كنت، حيالي
-
-
-
ولقد رأيت عُرا الحياة تخرّمت
-
-
-
-
- ولقد تصدّى الوارثون لمالي
-
-
-
ولقد رأيت على الفناء أدلة
-
-
-
-
- فيما تنكر من تصرف حالي
-
-
-
وإذا اعتبرت رأيت خطب حوادث
-
-
-
-
- يجرين بالأرزاق والآجالِ
-
-
-
وإذا تناسبت الرّجال، فما أرى
-
-
-
-
- نسباً يُقاس بصالح الأعمالِ
-
-
-
عبد االله بن المبارك
من أكثر شُعراء الزُّهد الذي اشتُهِروا بزُهدهم وورعهم، فكان يُقبِل سنة إلى الحجّ، ثمّ سنة إلى الجهاد، وقال فيه سُفيان الثّوري: “لو جهدت جهدي أن أكون في السّنة ثلاثة أيّام على ما عليه ابن المبارك لن أقدر”. وكان ممّن يُضرب المَثل فيهم بأنّهم لا يفصلون الحياة العامّة عن الزُّهد، فكان يعمل بالتّجارة، ويُنفق الكثير من أرباحه على أصحاب الحاجة من فقراء وطُلّاب العلم، وهذا لم يمنعه من الابتعاد والخلوة مع نفسه، وله أشعار تسيل رِقّة وحُسناً وفصاحةً سواء كان ذلك بالألفاظ أو المعاني، ويُبغِض في أشعاره متاع الحياة الدُّنيا الزّائل وملاهيها، والتّذكير بالآخرة، كما أظهر جانباً للدُّعاة الذين يعفّون أنفسهم عن المناصب الدّوليّة، بالإضافة إلى الجمع بين العبادة والجهاد والموازنة بينهما، فيرى أنّ كِلاهما يُقدّمان شيئاً لله، فالعابد دُموعه، والمُجاهد دماؤه، ومن أشعاره:
ياعابد الحرمين لو أبصرتنا
-
-
-
-
- لعلمت أنّك في العبادة تلعب
-
-
-
من كان يخضب جيده بدموعه
-
-
-
-
- فنحورنا بدمائنا تتخضب
-
-
-
أو كان يُتعب خيله في باطل
-
-
-
-
- فخيولنا يوم الصّبيحة تتعب
-
-
-
أبو نـوّاس
هو الحسن بن هاني، وهو من الشُّعراء الذين سبق لهم المُجون والاستهانة بأمور الدّين قبل تحوّلهم للزُّهد؛ إذ تم اتّهامه بالزّندقة، وبعقيدته حتّى سُجن في عهد الرّشيد والأمين أكثر من مرّة، وبعد شعوره بالذّنب حِيال ما قام به في ريعان شبابه تاب إلى الله، وطلب المغفرة منه، وهذا ما جعل أشعاره غارقة في الشّعور بالنّدم والذّنب، فكان بذلك المُوجد لقواعد شِعر النّدم والتّوبة والاستغفار، كما يستخدم في أشعاره أسلوباً عقليّاً مُقنعاً فيما يطرحه، ومن أشعاره في هذا الباب:
أراك يزيدك الإثراء شوقاً
-
-
-
-
- إلى الدّنيا كأنّك لا تموت
-
-
-
تظلّ على الغنى أبداً حريصاً
-
-
-
-
- تخاف فوات شيء لا يفوت
-
-
-
وأغنى منك ذو طمرين راضٍ
-
-
-
-
- من الدّنيا يبلغه ما يفوت
-
-
-