مميزات شعر نزار قباني
يعكس أسلوب الشاعر نزار قباني في كتابة الشعر ما مرّ به من مواقف صعبة خلال حياته أهمّها وفاة أمّه التي كان يعتبرها السيدة الأولى في حياته، ووفاة كلّ من شقيقته وصال وابنه توفيق وهما في مُقتبل العمر بسبب مرض القلب، إضافةً إلى مقتل زوجته العراقية بلقيس عام 1967م، وقد وُصف نزار قبّاني بشاعر المرأة والحب؛ نظراً لتغنّيه بالمرأة في العديد من قصائده، إضافةً إلى استخدامه أسلوب الغزل الصريح، كما كتب قبّاني لاحقاً في السياسة، وتميّز أسلوبه في الكتابة باستخدامه التعبيرات الصريحة والجريئة المتحدية، الأمر الذي جعل أشعاره وكتاباته مثيرةً للجدل في المجتمعات العربية.
ظاهرة التكرار
يُعدّ التكرار من أهم البُنيات الأسلوبية والفنية التي استخدمها قبّاني في كتاباته بهدف التأكيد على فكرة معينّة وجعلها جوهر عمله الشعري؛ وذلك لما لظاهرة التكرار من أثر واضح في معنى الشعر ومبناه، ورفده بالبثّ الإيحائي والجمالي، وإثراء شعرية النص التي تُعتبر أقرب الأجناس الأدبية إلى الإيقاعية، حيث يترك التكرار أثراً موسيقياً على النصوص الشعرية تشعر به الأذن وينفعل معه الوجدان، وهو ما يُميّز القصائد الشعرية النزارية، ويُمكن تقسيم التكرار الذي استخدمه قبّاني في كتاباته إلى ما يأتي:
التكرار البسيط
يشمل التكرار البسيط الأنواع الآتية:
- تكرار الكلمة: يقوم هذا النوع على تكرار كلمات معينة بهدف التأكيد على أهميتها؛ كتكرار أسماء الأعلام خاصةً في قصائد الرثاء أو تكرار أسماء المدن، وتُعدّ القصيدة التي تحمل عنوان (إلى الأمير الدمشقي توفيق قبّاني) التي كتبها نزار قباني في رثاء ابنه توفيق إحدى الأمثلة الشعرية على التكرار البسيط بتكرار الكلمة، حيث كرّر فيها الشاعر اسم ابنه توفيق في أبيات القصيدة كالآتي:
أتوفيق يا ملكي الملامح.. يا قمري الجبين
إقرأ أيضا:موضوع عن جمال الطبيعةأتوفيق..
إن جسور الزمالك ترقب كلّ صباح خطاك
أتوفيق
إني جبان أمام رثائك
فارحم أباك..
- تكرار العنوان: بحيث يتمّ تكرار العنوان في بداية كلّ مقطع من مقاطع القصيدة، ومن الأمثلة على استخدام نزار قبّاني لهذا النوع من التكرار قصيدة (أحبّك)، إذ بُنيت القصيدة في مقاطعها الثلاث على الكلمة المفتاحية (أحبك).
فبدأ المقطع الأول:
أحبك .. حتّى يتمّ انطفائي
والمقطع الثاني:
أحبك.. غيبوبة لا تفيق.
والمقطع الثالث:
أحبك.. لا تسألي أيّ دعوى
- تكرار التشبيه: يُقصد بهذا النوع تكرار الكلمات التشبيهية التي يستخدمها قبّاني في قصائده للتعبير مجازاً عن شيء معين بما يخدم النص وظيفياً، ففي قصيدة (شؤون صغيرة) كرّر الشاعر تشبيه الصوت لمشبه واحد هو المحبوبة للتأكيد على تعدّد جمالياتها وإعجابه بها:
صوتك يهمي علي
دفيئا.. مليئا .. قوي
كصوت نبي
كصوت ارتطام النجوم
كصوت سقوط الحلي
- أشكال أخرى للتكرار: امتاز شعر نزار قباني بوجود أنواع أخرى كثيرة من التكرار أهمّها ما يأتي:
- إضافة الكلمة إلى مثيلتها؛ كقوله ربيع الربيع، ونسيان النسيان… إلخ.
- العطف التوكيدي؛ كأن يقول: كثيراً وكثيراً، يتبعني ويتبعني… إلخ.
- العطف التتابعي؛ كأن يقول: نقلة فنقلة، سرباً فسرباً… وهكذا.
- التوكيد اللفظي؛ كأن يقول: وطريقك مسدود مسدود، ومفقود مفقود… إلخ.
- إسناد الفعل إلى المصدر؛ كأن يقول: جاع بي الجوع، والنوم لا ينام.
- تكرار يجمع بين مذكر ومؤنثه؛ كأن يقول: محيّر يبحث عن محيّرة.
- الفصل بين الكلمتين المتشابهتين بظرف؛ كأن يقول: غيمة بعد غيمة، حلمة بعد حلمة، وهكذا.
التكرار المُركّب
يظهر التكرار المُركّب في قصائد نزار قباني بعدّة صور على النحو الآتي:
إقرأ أيضا:مفهوم الشعر والشاعر عند الرومنطيقيين- تكرار جملة أو عبارة معينة: وذلك للتأكيد عليها وإبراز أهميتها، وهو من أبسط أنواع التكرار، كقوله:
وددت يا سيدتي
لو كنت أستطيع
حبك يا سيدتي
لو كنت أستطيع
- تكرار الخاتمة: أيّ ختم القصيدة أو النص الشعري بسطر مكرّر بغرض التوكيد واستشراف المستقبل؛ كقوله في إحدى قصائده:
ليست لهم هوية …. ليست لهم أسماء
لكنّهم يأتون
لكنّهم يأتون..
- تكرار التصرّف بالعبارة: ويُقصد به تكرار المتصرّف به بالزيادة أو الحذف من خلال استبدال بعض الكلمات للتعبير عن غموض المستقبل؛ كقوله:
خمسين يوماً -ربما- تأخّر القطار
خمسين عاماً -ربما- تأخّر القطار
خمسين قرناً -ربما- تأخّر القطار
- تكرار العنوان: أيّ ارتباط بداية القصيدة أو أجزاء منها بالعنوان؛ كقوله:
سأبدأ من أول السطر.. إن كنت تعتقدين
ثمّ يُكرّر مع شيء من التعديل فيقول:
سأبدأ من أول الخصر.. إن كنت تعتقدين
- التكرار الدائري التعاقبي: ويُقصد بهذا النوع الإلحاح على العبارة المكرّرة، و تقطيعها لأجزاء صغيرة لإعطاء دلالات معنوية؛ كقوله:
ولا يزالون يشتغلون
إقرأ أيضا:كيف تصبح كاتب رواياتولا يزالون يشتغلون
و.. لا.. ي.. زا.. ل.. و.. ن..
ي.. ش.. ت.. غ.. ل.. و.. ن..
جاء الشكل الكتابي لهذا المقطع للتأكيد على استمرارية العمل وإظهار المشقة والتعب والمعاناة التي يواجهها العاشق ليُحقّق ما تُريده محبوبته.
ظاهرة الانزياح اللغوي
تُعرف ظاهرة الانزياح بأنّها ظاهرة أدبية تقوم على الخروج عن الكلام المألوف على ألسنة الناس في الاستعمال اليومي، من خلال اختيار الألفاظ وانتقاء الكلمات ثمّ تركيبها في سياق أدبي ذي دلالة، حيث تهدف ظاهرة الانزياح للتوصيل والإبلاغ وتحقيق الشعرية والجمالية، وهي ظاهرة متنوعة وعادةً ما يكون لها مقياس تتحّدد به وتُعرف من خلاله، ولتحديد هذه الظاهرة ينبغي على القارىء أن يعود إلى القاعدة اللغوية، ويظهر الانزياح في الضعر على عدّة صور أهمّها ما يأتي:
الانزياح الدلالي
وهو الانتقال من المعنى الحقيقي أو المعجمي للكلمة إلى المعنى السياقي أو الانفعالي، فالانزياح الدلالي يقوم على استبدال المعنى المجازي بالمعنى الحقيقي، وللانزياح الدلالي عدّة أفرع هي كالآتي:
- الاستعارة: تقوم الاستعارة على استعمال اللفظ في غير نمطه الاعتيادي ومعناه الأصلي، وإنمّا لوصف شيء أو أمر مشابه، وقد استخدم قبّاني الاستعارة في قصيدته (هرّة) كقوله:
أحبُّ هذا اللؤم في عينها
-
-
-
-
- وزورها.. إن زورت قولها
-
-
-
وألمح الكذبة في ثغرها
-
-
-
-
- دائرة.. باسطة ظلها
-
-
-
عينٌ، كعين الذئب محتالة
-
-
-
-
- طافت أكاذيب الهوى حولها
-
-
-
فالسياق العام للقصيدة غزلية، ويُستبعد أن يكون الحديث فيها عن هرّة حقيقية؛ إلّا أن قبّاني استعار بالهرّة عن المرأة دون ذكر المواصفات الحسية والجسدية للمرأة.
- التشبيه: وهو من التقنيات الشعرية التي تعتمد على الانزياح، كما أنّه يُشبه الاستعارة إلى حدّ كبير، كون الاستعارة تقوم على التشبيه بالأساس إلّا أنّها تفوقه بتشكيل الصور الفنية لاعتمادها على المبالغة والخيال بشدّة، وحتّى يعكس التشبيه توظيفاً مميزاً للانزياح يجب أن يكون جديداً وغريباً و يُحدث الدهشة للمتلقّي والقارىء، ففي قصيدة نزار قبّاني (صباحك سكّر) يقول الشاعر:
إذا جئتني ذات يومٍ بثوبٍ
كعشب البحيرات.. أخضرَ .. أخضر
و شعرك ملقىً على كتفيكِ
كبحرٍ … كأبعاد ليلٍ مبعثر
ففي التشبيه الأول استعان الشاعر بعشب البحيرات للدلالة على الرونق والأناقة والحيوية، وفي التشبيه الثاني استعان بالبحر للدلالة على تبعثر الشعر وتموّجه، وبالليل للدلالة على سواد الشعر.
- الكناية: تُعدّ الكناية انزياحاً لأنّها تتضمّن عدولاً عن المعنى الصريح إلى ذكر ما يلزم فقط من هذا المعنى، ولكنّها أقل انزياحاً من الاستعارة، ففي قصيدة (22 نيسان) يقول الشاعر:
إنني أعبد عينيك.. فلا
تُنبِئي الليل بهذا الخبر
وهذا يتضمّن تشبيه العينين بسواد الليل وتشبيه ما يتلألا بها من أضواء بالنجوم، إلّا أنّ قبّاني فضّل عبادة العينين دون الليل، الأمر الذي سيجعل الليل يغار من العينين، فعبارة (لا تُنبِئي الليل) كناية عن الغيرة.
الانزياح التركيبي
يُركّز الانزياح التركيبي على تغيير مواقع الوحدات الكلامية الأصلية، سواء على مستوى الجملة أو النص أو الفقرة، ممّا يُساعد على خروج اللغة من طابعها النفعي إلى طابعها الإبداعي، وهناك عدّة أساليب للانزياح التركيبي أهمّها ما يأتي:
- التركيب على مستوى الجملة: تُعبّر الجملة عن أيّ تركيب إسنادي تتمّ به الفائدة أو لا تتم، ويُسمح للمتكلم عامةً وللشاعر بشكل خاص إنشاء جمل جديدة لا تخضع لقواعد النحو، فتنزاح الجمل الجديدة في تركيبها عن سابقاتها لكنّها تكون صحيحةً حسب قواعد النحو التوليدي المتمثّل في المعرفة الضمنية التي يمتلكها المتكلم عن لغته، وهناك عدّة انزياحات على مستوى الجمل أهمّها ما يأتي:
- التقديم والتأخير: يُسمّى هذا النوع من الانزياح بالانزياح الموضعي، وهو تقنية لسانية وظاهرة أدائية تعني إعادة ترتيب كلمات الجملة الواحدة بطريقة تختلف عن الترتيب المألوف لها وفقاً لقواعد اللغة؛ بهدف انزياح الجملة عن قواعدها التي لا تؤدّي إلّا غرضها الإبلاغي النفعي بشكل مجرّد من الإيحاء، وتحويلها إلى جملة ذات طابع فني إيحائي دون تجريدها من وظيفتها الإبلاغية، وقد استثمر نزار هذا النوع من الانزياح كثيراً في شعره، كقوله:
أنا عنك ما أخبرتهم لكنّهم
لمحوك تغتسلين في أحداقي
أنا عنك ما كلّمتهم لكنّهم
قرأوك في حبري وفي أوراقي
فبتقديم الجار والمجرور (عنك) المتعلّق بالفعلين (أخبرتهم و كلمتهم) تحقّق معنى إثبات الفعلين بدل نفيهما، فكأنّ الإخبار والكلام عن إمرأة ثانية يواري بها الشاعر عن حبيبته الحقيقية.
-
- الحذف: وهو جزء من متطلّبات النص الشعري وتحوّل في التركيب اللغوي يُثري النص جمالياً ويُثير القارىء ويُحفزّه لاستحضار النص الغائب ويُبعده عن التلقّي السلبي، فالحذف يُعطي تأثيراً بالتكثيف والإيحاء وانفتاح الخطاب على آفاق غير محدودة، كون التحديد يحمل بذور انغلاق النص على نفسه، وقد اعتمد نزار على الحذف كوسيلة إبداعية في شعره، فكان يحذف حروفاً وكلماتٍ وجملاً كاملةً ليصل إلى ما يُريده من منحى فني في قصائده؛ كحذفه لحرف النون في الفعل يكن في قصيدة (ورقة إلى القارىء):
سأرتاح.. لم يكُ معنى وجودي
فضولاً.. ولا كان عمري سدى
كما حذف قباني حروف النداء في شعره بكثرة، كما في قصيدة (مذعورة الفستان):
مذعورة الفستان.. لا تهربي
لي رأي فنان.. وعينا نبي
- التركيب على مستوى النص: تتمثّل النظرة الحديثة للنص في كونه وحدة كبيرة تتكوّن من أجزاء تقع على مستوى أفقي من الناحية النحوية وعلى مستوى عمودي من الناحية الدلالية، وهناك عدّة أنواع من انزياحات التركيب على مستوى النص أهمّها ما يأتي:
- الالتفات: هو سمة أسلوبية تعتمد بشكل كبير على الضمائر، حيث إنّها تقوم على أساس الانزياح من ضمير لآخر من خلال التحوّل في الخطاب من أسلوب لآخر؛ كالتحول من المخاطب للغائب، ويهدف الالتفات إلى كسر الرتابة ومخالفة توقّعات المتلقّي، وقد استخدم قبّاني أسلوب الالتفات في قصيدته (مع بيروتية) في قوله:
تذبحني إمرأة من لبنان..
تساوي مُلك سليمان..
آهٍ.. يا حبّي اللبناني..
آهٍ.. يا جرحي اللبناني..
وهنا يظهر أسلوب الالتفات من خلال الانزياح وإحضار صورة المرأة من الغائب إلى المخاطب.
-
- الاعتراض: هو إدخال وحدات لغوية على النص تكون غريبةً عن بُنيته ودخيلةً على دلالته، تُعطي القارىء شعوراً بالانقطاع عن الوتيرة التي ألفها منذ بداية قراءته للنص، ويُعدّ الاعتراض أسلوباً مهمّاً كونه يُعطي بُعداً دلاليّاً وقيمةً فنيةً للنص الذي يدخل عليه، ومن الأمثلة على استخدام قبّاني أسلوب الاعتراض قوله في قصيدة (مذعورة الفستان):
شارعنا يمشي على شوقه
يمشي على جرحِ هوى مرعب
حرّكت بالإيقاع أحجاره
فاندفعت في عزّة الموكب
تمهّلي في السير.. هل رغبةٌ
ظلّت بصدر الدرب لم ترغب؟
هل حجرٌ – إذا لُحتِ – لم يلتفت
لم ينسجم. لم يبكِ. لم يُطرب.
فالجملة المعترضة (إذا لُحتِ) ساهمت في تأكيد المعنى، أيّ أنّ ما حصل للحجر من التفات وانسجام وبكاء وطرب دلّ على الرغبة في الفتاة.
السمات اللغوية في شعر نزار قباني
تمتاز النصوص الشعرية للشاعر نزار قبّاني بمزجها بين اللغة الأكاديمية الفصحى واللغة العامية، فقد استخدم لغةً شعريةً تتباين باختلاف الغرض الشعري؛ وذلك باعتماد الألفاظ الجزلة والقوية والألفاظ السهلة كلّ في المواضع التي تتطلّبها، فأحياناً كان يستخدم اللغة الخطابية في بعض قصائده، وفي قصائد أخرى يستخدم اللغة التقريرية المباشرة، ولكن بشكل عام تمتاز لغته الشعرية بالمفردات ذات البُعد الواحد التي تتميّز بسهولتها وانتشارها بين الناس، الأمر الذي جعل شعره سلساً لجمهور المتلقّين، إذ يُمكنهم فهمه مهما كانت درجة ثقافتهم، وهذا لا ينفي الإبداع في نصوصه التي خضعت لانفعالاته وتفاعله مع قضايا المجتمع العربي بصفة عامة، ومن أهم الأسباب التي دعت قبّاني لاستخدام لغة سهلة ومفهومة تناول شعره للكثير من قضايا الحياة اليومية والمرأة والمجتمع العربي؛ الأمر الذي جعله يستخدم لغة الحياة اليومية للناس.
شعر نزار قباني والمرأة
اعتنى نزار قباني بشكل كبير بقضايا المرأة في قصائده الشعرية، وكانت له نظرة وأسلوب خاص في الكتابة عن المرأة في كلّ حالاتها؛ سواء كانت الأم، أو الطفلة، أو الحبيبة، أو الزوجة، وقد وصف الكثير من النقّاد والأدباء فكر نزار قباني الأنثوي بالتجديد؛ كونه تناول مواضيع وقضايا المرأة بفكر تحرّري ومشاعر انفعالية وجدانية، مستخدماً مفردات وألفاظ جريئة فيها تمرّد واضح على القوانين الاجتماعية المفروضة في المجتمعات العربية.