منوعات أدبية

الدوبيت في العصر العباسي

الدوبيت من الأوزان الشعرية المستحدثة في العصر العباسي بشكل عام، وفي شعر الأرَّجاني بشكل خاص، وهو في الأصل وزن فارسي يتكون من أربع تفعيلات في كل شطر شعري،ووزنه كما يرد في المصنفات الفارسية على: مفعولُ مفاعيلُ مفاعيلُنْ فاع (أربع مرات)، كما يرد في المصنفات العربية على: فَعْلُنْ متفاعلُنْ فَعولُنْ فَعَلُنْ (أربع مرات)”.

يتكوّن من بيتين من الشعر فقط، أربع تفعيلات في كل شطر شعري، وكل تفعيلة من التفعيلات تختلف عن الأخرى، وإنْ اتفقت في الإيقاع والنبر، بيد أنَّه لا بدَّ لنا من إدراك الاختلاف بين الأوزان العربية والأوزان الفارسية، فقد لا تنسجم الأذواق العربية المبدعة مع الأذواق الفارسية المبدعة في النسج على منوال واحد من الأوزان الشعرية، لاختلاف البيئة والثقافة، والظروف الملازمة لعملية الإبداع الشعري، وهذا يتضح في التناقض بين وزن الدوبيت في المصنفات الفارسية والمصنفات العربية، فالمصنفات العربية تغير التفعيلات لتتناسب مع أوزانها العربية، وما تآلفت عليه الذات الشاعرة المبدعة.

وجود بعض الأمثلة المنحرفة عن وزن الدوبيت تؤكد عدم التوافق بين الوزن الفارسي وبين الوزن العربي، بالإضافة إلى ندرة النسج على منواله، وهذا القول سيتجلى لاحقاً في شعر الأرَّجاني، فثمة انحرافات كثيرة في وزن الدوبيت، بالرغم من نسجه عدداً لا بأس به، وصلت إلى اثني عشر دوبيتاً. ولفظ الدوبيت مكون من كلمتين، إحداهما فارسية والأخرى عربية، فالكلمة فارسية هي “دو” أي اثنين، والعربية وهي “بيت”، لأن نظام القافية فيه ينطبق على البيتين من هذا النظم، فكل بيتين يعدان وحدة مستقلة.

إقرأ أيضا:كيف تكتب قصيدة

فالدوبيت لفظ فارسي تأثر به الشعراء العرب المتأخرون بالنظم على منواله، لكن إلى أي مدى التزموا بقواعده العروضية وبخاصة تفعيلاته، وما يهمنا، هنا، هو شعر الأرَّجاني، يقول:

منّي قَلَقٌ ومن سُلَيمَى مَلَقُ
مُذْ مَفْرِقُها دُجىً وفَرْقي فَلَقُ
لا غَرْو إذا رأيتَنا نَفتَرِقُ
الصَبْحُ معَ الظّلامِ لا يَتّفِقُ

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن

ففي الدوبيت السابق التزم الأرَّجاني بتفعيلات الدوبيت الموجودة في المصنفات العربية، من دون أنْ يغير فيها باللجوء مثلاً إلى الزحافات والعلل. ومثال ذلك قوله أيضاً :

لا مُسْعِدَ لي إذا اعْتَراني الأَرَقُ
في لَيْليَ غيرُ شَمعةٍ تَأتلِقُ
حالي أبداً وحالُها يَتّفِقُ
الجِسمُ يذوبُ والحشا يَحْتَرِق

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –

إقرأ أيضا:أنواع الشعر الجاهلي

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن

وقد يدخل الأرَّجاني زحافات وعلل في الدوبيت. يقول مثلاً :

أشتْاقُ إليك -يا بعيداً ناءٍ
شَوْقَ الظّامي إلى زُلالِ الماءِ
مَوْتي أو داوِ بالتداني دائي!
الموتُ، ولا شَماتةُ الأعداء!

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – –      – -/ – – ب -/ ب – -/ – –

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعْلن      فعْلن/ متْفاعلن/ فعولن/ فعْلن

– -/ – – ب -/ ب – -/ – –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – –

فعْلن/ متْفاعلن، فعولن/ فعْلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعْلن

فاستخدم الشاعر علة “القطع” المنبثقة من تفعيلة “فعِلن” في عروض وضرب البيتين السابقين، لكن، إلى أي مدى يستطيع الشاعر الثبات على وزن الدوبيت، وخصوصاً مع دخول تفعيلات أربع، ومن أوزان شعرية متنوعة، فهل سيوفق في السير على النهج ذاته من دون خلل قد يحدث في شطر شعري ما. يقول :

إقرأ أيضا:خصائص الشعر الحديث
أعطيتُ عِنانَ قَلْبيَ المَجروحِ
حَوْراءَ لحاظُها بقَتْلي تُوحي
لم أسْخُ رِضاً بقَلْبيَ المَقْروحِ
لكنّيَ فادَيْتُ بقَلْبيَ رُوحي

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – –

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعْلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعْلن

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – –      –/ ب ب – -/ ب ب –/ ب ب – –

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعْلن      فعْلن/ متَفاعلْ/ فعِلن/ متَفاعِلُ

لقد وفق الشاعر في البيت الأول من الدوبيت السابق في الحفاظ على وزن الدوبيت، وكذا الأمر في الشطر الأول من البيت الثاني، لكنه سرعان ما يختل الوزن في الشطر الثاني من البيت الثاني، حيث دخول زحاف “القطع” في تفعيلة “متَفاعل”، وهذه التفعيلة مشتقة من تفعيلة “متَفاعِلن”، لكننا لم نعهد ورودها في الزحاف عند شعرائنا القدماء، وها هي الآن ترد في وزن الدوبيت، وتعود فتتكرر مرة أخرى في الضرب من الشطر الشعري ذاته. وتأتي تفعيلة “فعِلن” التفعيلة الثالثة بدلاً من تفعيلة “فعولن”، وتفعيلة “متفاعلُ” تفعيلة الضرب بدلاً من تفعيلة “فعِلن”، وبهذا يوازن في النسق الإيقاعي في شطره الشعري، ليصبح مبنياً على تفعيلتين فقط لا أربع تفعيلات، وبهذا يغدو شطره الشعري على نسق البحور المركبة في شعرنا العربي القديم، وقد لا يساوي الخلل في بعض الأشطر الشعرية، ما تعارفنا عليه في البحور المركبة في الشعر العربي القديم. ومثال ذلك قوله :

لو لم يَرَ في النّاظرِ لي مَبْسِمَهُ
ما كان يَعِنُّ له أنْ يَلْثِمَهُ
لا يعتقِدُ العاشقُ أنْ يُكرِمَهُ
ما آثرَ بالقُبلةِ إلاّ فَمَهُ

– -/ ب ب – -/ ب ب – -/ ب ب –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –

فعْلن/ متَفاعِلْ/ متَفاعلْ/ فعِلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن

– -/ ب ب – -/ ب ب – -/ ب ب –      – -/ ب ب – -/ ب ب – -/ ب ب –

فعْلن/ متَفاعِلْ/ متَفاعلْ/ فعِلن      فعْلن/ متَفاعِلْ/ متَفاعلْ/ فعِلن

فلا ضير عندنا في الشطر الثاني من البيت الشعري الأول، إذ لا تقلقل فيه على نظام الدوبيت الفارسي، لكن الاضطراب وقع في الأشطر الشعرية المتبقية، إذ جاءت على إيقاع عروضي واحد، تتوالى في تفعيلته الثانية والثالثة تفعيلة القطع “متفاعل”، وتأتي تفعيلة “فعْلن” التفعيلة الأولى، وتفعيلة “فعِلن” التفعيلة الرابعة. ويقول أيضاً على هذا النسق :

تَدري باللهِ ما يَقولُ الشّمْعُ
للنّارِ وقد علاه منها اللّمْعُ
الطّاعةُ فيّ للهوَى والسّمْعُ
ما دام لك اللّمْعُ فمنّي الدَّمْع

– -/ – – ب -/ ب – -/ – –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – –

فعْلن/ متْفاعِلن/ فعولن/ فعْلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعْلن

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – –      – -/ ب ب – -/ ب ب – -/ – –

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعْلن      فعْلن/ متَفاعِلْ/ متَفاعلْ/ فعْلن

فالخلل ظهر في الشطر الثاني من البيت الثاني، حيث تفصل بين تفعيلتي “فعْلن”- التفعيلة الأولى والأخيرة تفعيلتي “متَفاعلْ”. ويقول أيضاً في المقام ذاته، وفي الشطر الشعري ذاته في دوبيت آخر :

في قلبيَ نارُ لَوعةٍ تَعتَلِقُ
ضَعْ كفَّك فوقَها عسى تَنْمَحِقُ
لا لا وأَخافُ أنّها تَحْتَرِقُ
من حَرِّ فؤادي فتَزيدُ الحُرَقُ

– -/ – – ب -/ ب – -/ ب ب –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –

فعْلن/ متْفاعِلن/ فعولن/ فعِلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –      – -/ ب ب – -/ ب ب – -/ ب ب –

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ متَفاعلْ/ فعِلن

يقول أيضاً في الطريقة ذاتها في دوبيت آخر :

كم في قَلْبي لعينكمْ مِن حُرَقِ
إن عشْتُ أتَى جَوابُها في نَسَق
أو بادرَني المَوتُ بقَطْعِ العُلَقِ
كم مِن دَيْنٍ كمثْلِ ذا في عُنُقي

– -/ – – ب -/ ب – -/ ب ب –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –

فعْلن/ متْفاعِلن/ فعولن/ فعِلن      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلن

– -/ ب ب – -/ ب ب – -/ ب ب –      – -/ – – ب -/ ب – -/ ب ب –

فعْلن/ متَفاعلْ/ متَفاعلْ/ فعِلن      فعْلن/ متْفاعِلن/ فعولن/ فعِلن

فالاضطراب يتجلى في الشطر الأول من البيت الشعري الثاني، وإذا حاولتُ وضع تفاعيل مناسبة لسد الخلل العروضي، الذي قد يحدث بين الفينة والأخرى في شطر شعري ما، أو عدة أشطر شعرية ما، إنني في بعض المواضع أعجز عن ذلك، كقوله :

النّاسُ نظامُ أمرِهمْ بالصّبْرِ
صَبْري أنا غيرُ ناظمٍ لي أَمْري
بالصّبْرِ كما قيلَ مَنالُ النّصْرِ
لكنّ أمامَه فَناءُ العُمْرِ

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – –      – -/ ب – – ب -/ ب – -/ – –

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعْلن      فعْلن/ فعولن/ فعْلن

– -/ ب ب – -/ ب ب – -/ – –      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – –

فعْلن/ متَفاعلْ/ متَفاعلْ/ فعْلن      فعْلن/ متَفاعلن/ فعولن/ فعْلن

فالعروض في الشطر الثاني من البيت الشعري الأول فيه اعوجاج واضح على نظام الدوبيت الفارسي والآخر العربي، فقد عجزت عن وضع تفعيلات تتناسب مع عروضنا العربي، وخصوصاً التفعيلة الثالثة، وأيضاً ثمة خلل في الشطر الأول في البيت الشعري الثاني، لكني قد أشرت إلى هذه القضية سابقاً، وسأتحاشى هذا الاعوجاج فيما سيأتي من أبيات شعرية، للوقوف على قضية أخرى، وهي وجود تفعيلة جديدة في العروض والضرب لم نعهدها في عروضنا العربي القديم. يقول :

مُذْجَرَّ عَنّي هَجرُكَ صَرْفَ المِقْدارْ
قلبي للحُزْنِ بَيتُ نارٍ قد صارْ
يا ليتَكَ للمجوسِ دِيناً تَختارْ
حتّى تُلْفَى مُراعياً بيتَ النّارْ

– -/ ب – – -/ ب ب – -/ – -ْ      – -/ – – ب -/ ب – -/ – -ْ

فعْلن/ مفاعيلن/ متَفاعلْ/ فعْلانْ      فعْلن/ متْفاعلن/ فعولن/ فعْلانْ

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ – -ْ      – -/ – – ب -/ ب – -/ – -ْ

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعْلانْ      فعْلن/ متْفاعِلن/ فعولن/ فعْلانْ

فنرى أنَّ هناك تفعيلة جديدة في عروضنا العربي، ألا وهي تفعيلة فعْلانْ، التي دخلها علة القطع والتذييل، وهذه العلة تتكرر في قوله :

لا بأْسَ وإن أذَبْتُ قلبي بِهَواكْ
القلبُ ومَن سلَبتْه القلبَ فِداكْ
وَلَّيْتَ وقلتَ أنعَمَ اللهُ مَساكْ
مَولايَ وهل يَنعَمُ مَن ليس يَراك

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –ْ      – -/ ب ب – ب -/ – -/ ب ب –ْ

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلانْ      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلانْ

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –ْ      – -/ ب ب – -/ ب ب – -/ ب ب –ْ

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلانْ      فعْلن/ متَفاعِلْ/ متَفاعلْ/ فعِلانْ

وقوله:

يا قلبُ تَخلَّ من هُموم وشُجونْ
بادر فُرَصَ الزّمانِ من قَبْلِ يَخونْ
لا تأْسَ فإنَّ حَمْلكَ الهمَّ جُنون
ما قُدّر أن يكونَ لابدَّ يكون

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –ْ      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –ْ

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلانْ      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلانْ

– -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –ْ      – -/ ب ب – ب -/ ب – -/ ب ب –ْ

فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلانْ      فعْلن/ متَفاعِلن/ فعولن/ فعِلانْ

وأخيراً، يتبين أنَّ ثمة تجاوزات في شعر الأرَّجاني المنظوم على الدوبيت الفارسي، لأسباب قد تتعلق باختلاف الذوق من حيث الموسيقى الشعرية الفارسية والعربية، فلم نعهد في عروضنا العربي وجود أربع تفعيلات في بحر عروضي واحد، فالحد الأقصى لذلك تفعيلتان فقط، أو قد يكون السبب أنَّ الذائقة العربية الشاعرة غير منسجمة مع هذا الوزن الشعري، لذا فهي تقع بين الفينة والأخرى في الاضطراب والخلل، لكن لو رجعنا إلى وزن بحر الميزان (الدوبيت) الحقيقي، لوجدنا عدم وقوع الشاعر الأرجاني في كسر وزني أو خطأ عروضي

السابق
أنواع التشبيه
التالي
كيف ينطبق الفكر مع الواقع