مريم العذراء
وُلدت مريم -عليها السّلام- لأمّ وأب تقيّين مؤمنين بالله تعالى، فحين حملت أمّ مريم بابنتها دعت الله -عزّ وجلّ- أن يحمي ما في بطنها، ثمّ نذرته لوجه الله -تعالى- ليكون خادماً للدين وعابداً موحّداً، لكنّ الأمّ زوجة عمران عندما وضعت ما في بطنها تفاجأت بأنّها أنثى، فتردّدت لأنّها نذرت ما في بطنها لله تعالى، لأنّ طبيعة الأنثى مختلفة عن الذكر في بعض الظروف، لكنّها توجّهت لله -تعالى- بالدعاء بأن يحميها وذرّيتها من شرّ الشيطان ورجسه، حيث قال الله -تعالى- في وصف حال أم مريم عليها السّلام: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، ثمّ قامت بالبحث عمّن يكفلها لدين الله وتوحيده، فاقترع بنو إسرائيل لاختيار من يكفلها، وكان الكلّ يريد ذلك الشرف حتى خرج سهم نبيّ الله زكريّا -عليه السّلام- في كفالتها وهو زوج خالتها، فمكثت مريم -عليها السلام- في كفالته.
قام زكريا -عليه السلام- بتربية مريم تربيةً صالحةً ورعاها بتقديم ما يلزمها، وأسكنها في محرابه، فأتتها كرامات من الله -تعالى- حتى تعجّب زكريا -عليه السلام- من ذلك، فكان يغيب عنها ثمّ يعود يجد عندها فاكهة في غير موسمها، حيث كان يجد في الشتاء فاكهة الصيف، وفي الصيف فاكهة الشتاء، وذلك تكريماً من الله -تعالى- لمريم عليها السلام، حيث قال: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وبقيت مريم -عليها السلام- على حال الصلاح والعبادة والنُّسك حتى شاء الله أن تبتعد عن قومها للعبادة والتفكّر في خلق الله -تعالى- وقدرته، فاتخذت جهة المشرق مكاناً لتعبّدها، وحينها أرسل الله -تعالى- لها جبريل -عليه السلام- في صورةِ إنسانٍ مكتملٍ، فخافت منه وفزعت، واستجارت بالله -تعالى- منه، فطمأنها جبريل -عليه السلام- وأخبرها أنّها ستلد ولداً سيكون عبداً لله -تعالى- دون أن يمسّها أي رجل، فتعجّبت عجباً شديداً فذكّرها جبريل بقدرة الله على أن يرزقها الولد دون أن يكون له أب.
إقرأ أيضا:قصة الأسلامقصة النبي عيسى
بعد أن بشّر جبريل -عليه السلام- مريم بأنّها ستكون العذراء التي ستلد نبيّ الله عيسى عليه السلام غادرها، وأدركت مريم أنّها حملت على كاهلها مسؤوليّةٍ عظيمةٍ، وقد يسّر الله -تعالى- على مريم حملها، فكان حملاً يسيراً سهلاً، حتى أذن الله أن تضع مولودها على حين غرّةٍ منها، قال الله تعالى: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا*فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)، فقالت ذلك من المفاجأة والضيق الذي وقعت به، حيث لم يكن يأساً من رحمة الله -تعالى- وصِلته لها قطعاً، ولكنّه تعب اعتراها كما يعتري أيّ بشر في لحظة شديدة، ولم تتأخّر رحمة الله -تعالى- ورأفته بحالها فأنطق طفلها عيسى -عليه السلام- لتطمئن، قال الله تعالى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا*وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا*فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).
توجّهت مريم -عليها السلام- إلى قومها وهي تحمل طفلها على يديها، فتفاجأ القوم من العابدة المتبتلة التقية، التي ربّاها نبيّ الله زكريّا عليه السلام، وتعجّبوا من صنيعها، وذكّروها بأنّها كانت ابنة مؤمنين صالحين لم يكن عندهم البغاء، ثمّ رموها بالبغاء لمّا رأوا حالها، وكانت مريم -عليها السلام- صائمةً عن الكلام كما أمرها الله -تعالى- حين أنطق بذلك عيسى عليه السلام، فأشارت إليه ولم تتكلّم، فأنطق الله -تعالى- نبيّه مجدّداً أمام قومه مُدافعاً عن والدته، قال الله تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا*وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا*وَبَرًّا بِوالِدَتي وَلَم يَجعَلني جَبّارًا شَقِيًّا).
إقرأ أيضا:قصة ليلة الاسراء والمعراجبشريّة عيسى
ادّعى النّصارى أنّ عيسى -عليه السلام- إلهاً مع الله تعالى، وزعموا ذلك لِما رأوا من معجزةٍ باهرةٍ وُلد فيها دون أب، وكان ممّا زعموا أيضاً أنّ القرآن الكريم أكّد قولهم حين وصف عيسى -عليه السلام- أنّه كلمة الله وروحه، لكنّهم ما فقهوا قول الله -تعالى- في آية أخرى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، فالقرآن الكريم نفى ألوهيّة عيسى جملةً وتفصيلاً، وجاء القرآن الكريم بالتوحيد الذي جاء به عيسى من قبل، إلّا أنّ بني إسرائيل حرّفوا إنجيلهم وغيّروا فيه على أهوائهم.
إقرأ أيضا:قصة صاحب الجنتينوورد في القرآن الكريم أنّ عيسى بن مريم رسول الله ونبيّه وكلمته التي ألقاها إلى مريم عليها السلام، ورغم أنّ مولد عيسى -عليه السلام- خرق العادة التي اعتادها الناس في الإنجاب، إلا أنّها لا تخرج عن قدرة الله تعالى، حيث إنّ المُسلم يعلم أنّ الله -تعالى- خلق آدم -عليه السلام- دون أبٍ وأمٍّ، وبذلك أكّد القرآن الكريم بشريّة عيسى -عليه السلام- إذْ إنّ الخلق عند الله لا يستلزم قاعدةً واحدةً للإيجاد، بل إنّ الله يُوجد من العدم إلى الخلق بالكيفيّة التي يشاء.